السياسةُ النووية الإيرانية الجديدة بينَ الرَدعِ والبراغماتية

هناكََ احتمالٌ حقيقي بأن تُصبِحَ إيران قوّة نووية -وهي خطوة من شأنها أن تكونَ لها عواقب وخيمة- ومن المُرجّح أن يحدثَ هذا عندما تُدرِكُ إيران وجودَ تهديدٍ لأمنها لا يُمكنُ إدارته أو مواجهته بشكلٍ مُناسب من خلال استخدامها الحالي للرَدعِ النَشِط.

الجنرال أحمد حقطلب: إذا استمرت إسرائيل في خطابها، فسوف تقوم طهران بمراجعة “عقيدتها وسياساتها النووية “.

زكيّة يزدنشناس وعَلَم صالح*

أثارَ التصعيدُ الأخير في التوترات بين إسرائيل وإيران مخاوفَ بشأنِ تحوّلٍ مُحتَمَلٍ في استراتيجية طهران نحو التسليح الكامل لبرنامجها النووي. في 14 نيسان (أبريل)، ردًّا على الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في سوريا في 1 نيسان (أبريل) والتي أسفرت عن مقتل سبعة إيرانيين، من بينهم الجنرال في فيلق القدس محمد رضا زاهدي، أطلقت إيران أكثر من 300 طائرة مُسَيَّرة وصاروخ باليستي ضدّ إسرائيل، في أوَّلِ هجومٍ مباشر لها على الإطلاق على الدولة العبرية. ونظرًا لما يُقال عن ترسانةِ إسرائيل النووية الكبيرة وغير المُعلَنة، فقد فسَّرَ مُحلِّلون كثيرون هذه الخطوة على أنها إشارةٌ إلى أنَّ إيران تنوي أن تُصبِحَ قوةً نووية مُعلَنة.

من الصبر الاستراتيجي إلى الردع النشط

تُحَدِّدُ الوكالةُ الدولية للطاقة الذرية الحَدَّ الأدنى لصُنعِ قنبلةٍ ذرية بحوالي 42 كلغ من اليورانيوم المُخَصَّب حتى درجة نقاء 60٪. ويشيرُ أحدثُ تقريرٍ للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أنَّ إيران تمتلك 121 كيلوغرامًا من اليورانيوم المُخَصَّب إلى هذا المستوى، وهو ما يكفي لصُنعِ ثلاث قنابل تقريبًا. وعلى الرُغمِ من ادِّعاءِ إيران بأنها لا تسعى إلى إنتاجِ أسلحةٍ نووية، فإنها تظلُّ الدولة الوحيدة التي تقومُ بتخصيبِ اليورانيوم على هذا المستوى من دونِ أن يكونَ لديها برنامجٌ مُؤكَّد لتصنيع الأسلحة النووية. من المُرجَّح أن يكونَ الحفاظُ على مكانتها كقوة نووية هي الإستراتيجية التي اختارتها إيران في ظلِّ الظروفِ الحالية. وهذا يتماشى مع الاستراتيجية الكبرى الجديدة الاستباقية والوقائية للبلاد، مُقارنةً بنهجها السابق المُتمثّل في الصبر الاستراتيجي.

وبينما امتنعت إيران في السابق عن الانتقامِ المُباشِر من إسرائيل بسبب عملياتها السرّية المزعومة، بما في ذلك اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين وعناصر من الحرس الثوري الإسلامي، فقد قرّرت تبنّي موقفٍ جديد. وعلى حدِّ تعبير حسين سلامي، القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني، “من الآن فصاعدًا، إذا هاجمت إسرائيل مصالحنا وأصولنا وشخصياتنا ومواطنينا في أيِّ مكان، فسوفَ نقابلُ بهجومٍ مُضاد من داخل جمهورية إيران الإسلامية”.

أدّى فشلُ الاتفاق النووي لعام 2015، والمعروف ب”خطة العمل الشاملة المشتركة”، والأنشطة السرّية المزعومة لإسرائيل في إيران في السنوات الأخيرة، إلى دَفعِ طهران إلى التخلّي عن سياسةِ الصبر الاستراتيجي، ولم تَعُد مُستَعِدّة لخَوضِ حَربِ ظلٍّ بالاعتماد على حلفائها الإقليميين من غير الدول. إنَّ الأحداثَ الأخيرة، مثل الضربة الصاروخية التي شنَّتها إيران في منتصف كانون الثاني (يناير) على باكستان ردًّا على الهجومِ الإرهابي الذي شنّه “جيش العدل” على مدينة تشابهار الساحلية، والغارات المُسيّرة والصاروخية التي شنتها إيران في منتصف نيسان (أبريل) على إسرائيل، تعكس تغيُّرًا في موقف الجمهورية الإسلامية واستعدادًا جديدًا لاتخاذِ إجراءاتٍ أكثر حزمًا. ووفقًا لما نشره محمد جمشيدي، نائب رئيس موظفي الرئيس إبراهيم رئيسي، على منصّة التواصل الاجتماعي “X”، فإنَّ “عصرَ الصبر الاستراتيجي الإيراني قد انتهى”.

لكن، خلافًا لمخاوف العديد من المُحلّلين، تُدرِكُ إيران الفوائد المُترتّبة على بقائها قوةً نووية كامنة، بدلًا من التحوّلِ إلى قوةٍ مُعلَنة علنًا. وكما ترى السلطات الإيرانية، فإنَّ امتلاكَ القدرات النووية لن يردعَ الهجمات العسكرية واسعة النطاق فحسب، بل سيوفّرُ أيضًا نفوذًا أكبر في المفاوضات مع الولايات المتحدة والخصوم الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تنشيطِ إمكانيةِ وقف التصعيد الإقليمي وتحسين العلاقات الثنائية مع الجيران المهمّين، وهي العمليات الجارية منذ آذار (مارس) 2023، في أعقابِ التقارب الذي توسّطت فيه الصين بين المملكة العربية السعودية وإيران.

كونها قوة على العتبة النووية وفوائدها الردعية

من الواضحِ أنَّ المسؤولين الإيرانيين يعتقدون أنَّ امتلاكَ الأسلحة النووية ليس ضروريًا لرَدعِ أيِّ هجومٍ مباشر من جانب إسرائيل، لأنَّ قدرتها على شنِّ هجومٍ واسع النطاق على إيران من دونِ دَعمِ الولايات المتحدة محدودة بسبب القيود الجيوسياسية. كانت كلٌّ من واشنطن وطهران مُتردّدة للغاية في الانخراطِ في صراعٍ مباشر واسع النطاق منذ هجمات “حماس” على الأراضي الإسرائيلية في 7 نيسان (أكتوبر) 2023، والتي أثارت تصعيدًا متصاعدًا في المنطقة. منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تمكّنت أميركا وإيران من التعامل مع التوترات الإقليمية بنجاحٍ نسبي.

في أعقابِ الضربةِ الانتقامية الإيرانية على إسرائيل، أكّدَ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للولايات المتحدة أنَّ إيران ليست لديها أيّ نِيّة لاستهدافِ القواعدِ الأميركية في المنطقة، وكرّرت واشنطن موقفها بعدم المشاركة في العمليات الهجومية الإسرائيلية ضد إيران. ومن وجهة نظر إيران، كان الهجوم الإسرائيلي على القاعدة الجوية في أصفهان في التاسع عشر من نيسان (أبريل) بمثابة محاولة تخريبية واضحة. وبحسب وسائل إعلام إيرانية، فإنَّ هذا الحادث، على غرار عملية سابقة قيل إن الإسرائيليين نفذوها في كانون الثاني (يناير) 2023، شاركت فيها طائرات صغيرة مُسيَّرة يُعتَقَدُ أنها انطلقت من داخل الأراضي الإيرانية. ويؤكّدُ المسؤولون الإيرانيون أنَّ نظامَ الدفاع الجوي الخاص بهم نجح في اعتراض وتدمير الطائرات المسيَّرة في منتصف الرحلة.

في الرَدِّ على التهديدات المُتَصَوَّرة من الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، استخدمت إيران مجموعةً من استراتيجيات التوازن الداخلية والخارجية التي نجحت في حماية أمنها بشكلٍ فعال حتى الآن. وفي ما يتعلق بالتوازن الداخلي، تعتمدُ إيران على منشآت التخصيب وإعادة المعالجة مثل الدول النووية الكامنة الأخرى، مثل اليابان. ويشيرُ “الكمون النووي” (Nuclear Latency) إلى الدول التي لديها القدرة المحتملة على تجميع ترسانة نووية في فترة زمنية قصيرة نسبيًا في حالة وجود تهديد وجودي. فمن خلال الحفاظ على القدرة على بناءِ أسلحةٍ نووية بسرعة من دونِ القيام بذلك فعليًا، وهي السياسة المعروفة باسم “الخيار الياباني”، تظلُّ إيران مُلتزمة بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد إيران أيضًا على قوّتها العسكرية التقليدية واستغلال الأصول الجيوسياسية الاستراتيجية. وفي ما يتعلق بالتوازن الخارجي، قامت طهران ببناء شبكة من الشركاء والحلفاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط الذين يؤمنون في الهدف المشترك المُتمثّل في مواجهة الهيمنة الأميركية والإسرائيلية. ويَنظُرُ صنّاعُ السياسة الإيرانيون إلى هذه المكوّنات الداخلية والخارجية على أنها مترابطة، مما يخلق توازنًا مستقرًّا لحماية أمن إيران ومصالحها.

وتستندُ العقيدةُ الدفاعية الإيرانية إلى مفهومِ الرَدعِ النشط، والذي بموجبهِ يتمُّ تنفيذُ إجراءٍ مُضادٍ مُحَدَّدٍ سلفًا في حالةِ فشلِ الرَدعِ وحده، وبالتالي تعزيز الردع عن اتخاذِ المزيدِ من الإجراءات من قِبَلِ الجهات المتحاربة. وفي هذا الصدد، فإنَّ تبادُلَ الضربات الصاروخية الأخيرة بين إيران وإسرائيل لا يعني تحوُّلًا كبيرًا بعيدًا من هذه العقيدة ونحو التسلّح النووي، بل يُشيرُ بدلًا من ذلك إلى مرحلةٍ جديدة في نَهجِ الرَدعِ النشط المستمر. ويشيرُ تركيزُ إسرائيل على إبقاءِ نطاقِ الصراع محدودًا والالتزام الأميركي بعدمِ التورُّطِ في أيِّ اشتباكاتٍ عسكرية مع إيران إلى أنَّ هذا المبدأ كان فعّالًا في رَدعِ أيِّ عملٍ عسكريٍّ أوسع نطاقًا ضدّ إيران حتى الآن.

وباعتبارها قوة على العتبة النووية، تُحافظ إيران على غموضٍ استراتيجي حول قدراتها النووية، ويمكنها استخدام ذلك كورقةِ مساومة سياسية. وفقًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، اعتبارًا من حزيران (يونيو) 2023 فصاعدًا، خفّضَت إيران مُعدّلَ تخصيب اليورانيوم (ما يصل إلى 60٪) لبضعة أشهر، قبل أن تعكسَ مسارها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 وتزيد معدل إنتاج اليورانيوم المُخَصَّب (ما يصل إلى 60٪) إلى 9 كلغ شهريًا. ويُشيرُ أحدث تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أنه بينما كانت إيران تقومُ بتخصيب اليورانيوم بلمعدّل نفسه منذ بداية العام 2024، فقد خفَّضَت أيضًا حوالي 31.8 كلغ من مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪، مما خفّضَ إجمالي احتياطاتها بمقدار 6.8 كلغ.

تشيرُ هذه التقلّبات في إنتاج واحتياطات اليورانيوم المُخَصَّب إلى أنَّ المفاوضات والاتفاقات السرية بين إيران والولايات المتحدة ربما كانت تجري في الأشهر الأخيرة. وعلى الرُغمِ من الحرب المستمرة في غزة، تمكّنت إيران من تصدير ما يقرب من 1.56 مليون برميل من النفط يوميًا في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2024، وهو أكبر حجم منذ أواخر العام 2018. وفي حين تمكّنت إيران من إتقانِ أساليب مختلفة للتحايل على العقوبات خلال هذه الفترة، يبدو أن إدارة بايدن متردّدة في فَرضِ إجراءات عقوبات ثانوية صارمة من شأنها أن تزيدَ من عرقلةِ مبيعات النفط الإيراني.

الردعُ في مواجهةِ الكتلة الأميركية-الإسرائيلية

رُغمَ أنَّ الحربَ في غزة وَفَّرت لإيران فُرَصًا جديدة للتأثير في ديناميكيات القوة الإقليمية، فإنَّ كونها قوة نووية لا يفرض عليها تكاليف إضافية. بل إنه يوفّرُ لطهران نفوذًا كبيرًا إذا زادت الضغوط الخارجية. وعلى هذا النحو، فإنَّ القدرات النووية الإيرانية تعمل بمثابةِ أداة ردع وأداة للمساومة. في الوقت الحالي، تَنظُرُ طهران إلى الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبارهما التهديد الخارجي الرئيس لها. وبالتالي، فإنّها تُشكّلُ استراتيجياتها الأمنية الإقليمية مع وَضعِ هاتين القوَّتين النوويتين في الاعتبار. وكعُنصُرٍ من عناصر هذا النهج، تسعى طهران إلى الحدِّ من تصوّرات التهديد بين جيرانها العرب من خلال تنفيذ سياسة الجوار والبدء في تدابير بناءِ الثقة، مثل توسيع العلاقات الديبلوماسية الثُنائية.

تسعى إيران إلى مواصلةِ تعزيزِ علاقاتها مع جيرانها، والخروج من عزلتها السياسية، وإلى حدٍّ ما معالجة تنميتها الاقتصادية المتخلّفة. ويحتاجُ اقتصادها، الذي أعاقته العقوبات، إلى الإنعاش، وفي هذا السياق، تظلُّ طهران مُدرِكةً تمامًا للتكاليف المادية والنسبية لإعلانِ نفسها قوّة نووية. إنَّ شكوكَ المحللين، الذين يتوقّعون زيادةً في إنتاج طهران من اليورانيوم المُخَصَّب، قد لا تكون في محلّها نظرًا للفوائد العديدة التي يُمكِنُ أن تجنيها إيران من البقاء قوةً على العتبة النووية.

مع ذلك، هناكَ احتمالٌ حقيقي بأن تُصبِحَ إيران قوة نووية -وهي خطوة من شأنها أن تكونَ لها عواقب وخيمة- ومن المرجح أن يحدث هذا عندما تشعر إيران بوجود تهديد لأمنها لا يمكن إدارته أو مواجهته بشكلٍ مناسب من خلال استخدامها الحالي للردع النشط. وإذا نفّذت الولايات المتحدة وإسرائيل بشكلٍ مشترك ضربةً عسكرية كبيرة تستهدفُ المنشآت النووية والعسكرية الرئيسة في إيران، فإنَّ هذا قد يجعل استراتيجية الردع الحالية التي تنتهجها طهران غير قابلة للحياة، وغير فعالة، وغير مستدامة. في 18 نيسان (أبريل)، صرَّحَ الجنرال أحمد حقطلب، قائد فيلق حماية وأمن المراكز النووية، أنه إذا استمرت إسرائيل في خطابها، فسوف تقوم طهران بمراجعة “عقيدتها وسياساتها النووية”.

هناكَ العديدُ من الخطوات التي يمكن للاعبين الإقليميين الرئيسيين اتخاذها لضمان عدم حدوث ذلك. أوّلًا وقبل كل شيء، إن استئنافَ المفاوضات الديبلوماسية بشأن البرنامج النووي الإيراني ووَضعَ قواعد واضحة لمنع تسليحه، في مقابل الحدّ من حجم وتأثير العقوبات الاقتصادية، من شأنه أن يُفيدَ جميع أصحاب المصلحة. ثانيًا، كخطوةٍ إضافية، فإنَّ تشجيعَ الدول المجاورة، وخصوصًا الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، على تطوير علاقات ديبلوماسية واقتصادية بنّاءة مع إيران من شأنه أن يثني طهران عن مواصلة تخصيب اليورانيوم، ويُثبِطَ الانخراطَ في المزيد من المواجهات العسكرية على نطاقٍ صغير، ويبني على التزام إيران المبدئي بالاضطلاع بدورِ جهةٍ فاعلة إقليمية مسؤولة. وأخيرًا، فإنَّ حلَّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، رُغمَ أن ذلك قد يبدو بعيدًا الآن في خضم الحرب، سيكون خطوةً حاسمة نحو التخفيف من خطر تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران فضلًا عن تخفيف الأزمة الأمنية الساخنة التي تُعاني منها المنطقة حاليًا.

  • زكية يازدانشيناس هي زميلة أبحاث أولى في مركز البحث العلمي والدراسات الإستراتيجية للشرق الأوسط في طهران. يمكن متابعتها عبر منصة (X)على: @YzdZakiyeh.
  • عَلَم صالح هو محاضر أول في العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط في الجامعة الوطنية الأوسترالية. يمكن متابعته عبر منصة (X) على: @alamsaleh1.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى