لبنان: من نَفَقِ “الديموقراطية التوافُقِيّة” إلى أفاقِ “الديموقراطية الميثاقية”
ناظم الخوري*
الديموقراطية، نظامُ حُكمٍ ضاربٍ في التاريخ، لا تزالُ مُندَرَجاتُهُ محورَ السياسةِ الأوَّل، وفي حالةِ تطوُّرٍ مُستَمِرّ، إطارُها اختيارُ الشعب لمُمثِّليه عبر انتخاباتٍ تَنتُجُ عنها أكثريةٌ تَحكُم وأقلِّيةٌ تُعارِض.
كلُّ الانتخاباتِ المُعاصِرة تُجرَى تحتَ عباءةِ الديموقراطية رُغمَ اختلافِ أوجه الدول، ورُغمَ أنَّ أنظمةً عدّة دِكتاتورية وعسكرية وغيرها تَمتَهِنُ التأثير في النتائج الانتخابية وفي الخيارات الشعبية وحتى في قمعِ الحرّيات، ومُمارستها تتضاربُ مع أبسطِ قواعد الديموقراطية.
إنّ النظامَ السياسي اللبناني، في المبدَإِ وبحسب الدستور، جمهوري ديموقراطي برلماني. أمّا في المُمارسة، فاعتمدَ “الديموقراطية التوافقية” التي عادةً ما تُعيقُ كلَّ إصلاحٍ وتُفَخّخُ مسارَ كلِّ استحقاق.
التوافُقُ لا يدوم كونهُ يخضعُ للمصالح الآنية. أمّا الوفاق فمحكومٌ بمبادئ عُليا.
عمومًا، هناكَ اختلافٌ رُكنيٌّ بين الديموقراطية والتوافُق. فالأخيرُ يعكسُ تنازلاتٍ ومُحاصصاتٍ تكونُ نتائجُها وَخيمةً على الوطن، وقد عايَنّا كارِثِيَّتَها في قانون الانتخابات الأخير الذي رسَّخَ الطائفية، بل المذهبية وحتى العدائية بين الزُملاء في اللوائح الانتخابية الواحدة. أمّا النتيجة فكانت مجلسًا نيابيًا غير مُنتِجٍ وغير قادرٍ على انتخابِ رئيسٍ للجمهورية أو إصدار التشريعات المطلوبة. كما إنَّ هذا القانون أبعدَ وصولَ أكثريّةِ الأحزاب الوطنية الجامعة والمُستقلّين الذين كانَ يُعَوَّلُ عليهم لإجراءِ الإصلاحات الجذرية.
في السّياق، جمّدَ تَدَخُّلُ السياسيين في الجسمِ القضائي التشكيلاتَ القضائية التي كانت أُقِرَّتْ بالإجماع في مجلس القضاء الأعلى، ومنعَ إجراءَ التحقيقات في انفجارِ العصر في مرفَإِ بيروت، وفي ملفّاتٍ أُخرى مُلِحّة وخطيرة ومطلوبة.
لا سبيلَ لتعدادِ الإخفاقات والإنتهاكات لحقوقِ المواطنين والمؤسّسات. فاللائحة تطول، والشعب، ونحن منه، يُعاني من فقدانِ كلِّ مقوِّمات الحياة ومن سرقةٍ موصوفة لأموالنا، كما يبدو أنّ التراكُمَ في سوءِ إدارةِ الأزمات والإنهيار مُتَعَمَّدَين. إذ لا يعقلُ أنّهُ منذُ العام 2019 لم نشهد أيَّ إصلاحٍ، إن على الصعيد المالي أو السياسي، والمؤسّسات في حالةِ شلل، ولا يلوحُ خلاصٌ في الأُفُق.
لبنان، اليوم، في حرب، والإنقسامُ حادٌ بين اللبنانيين على الخياراتِ الوطنيّة وعلى سيادةِ الدولة، في ظلِّ مُتغيّراتٍ في المنطقة يغيبُ عنها لبنان الرسمي بسبب الفراغ في رئاسة الجمهورية، وفي ظلِّ حكومةِ تصريفِ أعمالٍ غير فاعلة. وهنا ثمّةُ أسئلة تُطرَح: ما هي الرؤية اللبنانية لأيِّ مفاوضاتٍ إقليمية ودولية مقبلة؟ مع مَن سيتمُّ التعاطي بغيابِ أيِّ مرجعيةٍ رسميةٍ مُخَوَّلةٍ دستوريًا التفاوض عن لبنان؟ أما آنَ الأوان كي يتوقّف هذا الانهيار؟ أما آنَ الأوان لمُصالحةٍ وطنيةٍ تُريحُ هذا الشعب المُنهَك وهذا الوطن المُعتَلّ؟
لبنان على مُفتَرَق طُرُق. لا بُدَّ من رسمِ خريطةِ طريقٍ وبرنامجِ حُكمٍ يُتَفَقُ عليه. ولأنَّ “الديموقراطية التوافقية” لا مجالَ لتطبيقها، حيث الفيتو المطروح من أيٍّ من الجهاتِ السياسية قادرٌ على إفراغها من مضمونها وتعطيل مسارها. ولأنَّ الديموقراطية يجبُ أن تضمَنَ حمايةَ الأقلّيات ومشاركتها في الحُكمِ صونًا لحقوقها ودعمًا لدورها في الحياة السياسية. ولأنَّ أيَّ مُمارسةٍ للديموقراطية في لبنان ترتبطُ بالوفاق والميثاق الوطني والعيش المشترك، فإنني أرى الأجدى أن تُعتَمَدَ “الديموقراطية الميثاقية” النابعة من روحيةِ هذه الأُسس، لكي نُحافِظَ على هذا الوطن النموذجي. والفقرة “ياء” من الدستور تنصُّ على أنَّ “لا شرعيةَ لأيِّ سلطةٍ تُناقِضُ ميثاقَ العيشِ المُشتَرَك”.
كونه موطنَ الأقلّيات بامتياز، تَميَّزَ لبنان منذ العام 1943 بالميثاق الوطني، وكان سبّاقًا في اعتمادِ هذه الصيغةِ الفريدة في العالم، التي تضمّنت العيش المشترك، ومنحت 18 طائفة حقوقًا متساوية وشراكةً في إدارة البلاد وصُنعِ القرارات. إنّ لبنان واحدٌ من أصغر دول العالم، حباه الله غنىً بتنوُّعهِ الطائفي، دفع بقداسة البابا القديس “يوحنا بولس الثاني” إلى توصيفه بـ”الرسالة للعالم أجمع”. هذا الكيان النموذجي، نراهُ اليوم مُهَدَّدًا في وجوده، نتيجة إخفاقات قياداته التي تتجاهل الروح الميثاقية. بل إنّ بعضهم غير مُقتَنع بوجودِ مثل هذه الروحية أو غير مُتحمّسٍ لتطبيقٍ فعلي للميثاق الوطني المذكور. واذا ما فشلَ لبنان في تطبيق “الديموقراطية الميثاقية” فمردّ ذلك الى سوء ممارسة بعض سياسييه.
- ناظم الخوري هو سياسي لبناني، كان وزيرًا للبيئة في حكومة نجيب ميقاتي التي شُكِّلت في العام 2011، وكان قبل ذلك نائبًا في البرلمان اللبناني.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة النهار (بيروت).