حربُ إسرائيل على غزّة ستؤدّي في النهايةِ إلى تَقوِيَةِ “حماس” وإيران
مايكل يونغ*
في الأشهُرِ التسعةِ الماضية، كانَ هناكَ جَدَلٌ كبيرٌ حَولَ ما إذا كانت إيران على عِلمٍ مُسبَقٍ بالهجوم الذي شنّتهُ حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ضدّ إسرائيل. النظامُ الإيراني أشارَ إلى أنّهُ لم يَكُن يعلم، وقد يكونُ هذا صحيحًا، نظرًا لأنَّ الصراعَ الذي تلا ذلك، على الأقل من الناحية النظرية، شَكَّلَ تهديدًا وجوديًا لبقاء “حماس” في قطاع غزّة، وهي حركةٌ رئيسةٌ في شبكةِ تحالُفِ طهران.
مع ذلك، في نهاية المطاف، قد لا يكونُ من المُهِمِّ معرفةُ ما إذا كانت طهران على عِلمٍ بذلك أم لا. والسبب هو أنَّ النظامَ الإيراني الإقليمي الذي تمَّ إنشاؤه في العقد الفائت أو نحو ذلك، وحتى منذ فترةٍ أطول، جَعَلَ من المُحتَمَلِ جدًا ألّا تكون نتيجة الحرب في غزة في صالح إسرائيل بشكلٍ حاسم. مع قيامِ الإسرائيليين بتدميرِ القطاعِ وقتلِ عشرات الآلاف من المدنيين، فقد عزّزت إيران أوراقها الإقليمية، ومن المُرجَّح أن تخرجَ من الحريق وقد أصبحت أقوى.
النظامُ الإيراني الإقليمي يحمُلُ القليلَ من الأسرار. لقد قامت طهران ببناءِ سلسلةٍ من التحالُفات مع جهاتٍ فاعلةٍ غير حكومية أو شبه حكومية في جميع أنحاء المنطقة التي تُحيطُ بإسرائيل — مع “حزب الله” الذي يعمل من لبنان، و”حزب الله” والميليشيات العراقية من سوريا، والحوثيين من اليمن، و”حماس” من قطاع غزة وربما الضفة الغربية في المستقبل. وقد أظهرت إسرائيل عجزَها عن وَقفِ تَقَدُّمِ مثل هذه الجماعات، على الرُغمِ من تفوُّقِها العسكري الساحق عليها.
السببُ الرئيس هو أنَّ النظامَ الإيراني الإقليمي رَكّزَ أيضًا على السياسة. في لبنان وسوريا والعراق واليمن، نجحت إيران وحلفاؤها في السيطرة على دولٍ هشّة أو ضعيفة أو مُفَكّكة، ما أدّى إلى خلقِ أساسٍ سياسيٍّ لمساعيهم. في أفضلِ الأحوال، قد يكونُ للأسلحة الإسرائيلية تأثيرٌ في تأخيرِ أعدائها، كاسِبةً الوقت حتى معارك مستقبلية، لكن تأثيرها الحقيقي محدودٌ على السياقات السياسية التي تستطيعُ فيها هذه الجهات الفاعلة غير الحكومية أو شبه الحكومية العمل.
بل على العكس، إذا أخذنا غزّة كمثال، فإنَّ التدميرَ الإسرائيلي يلعبُ في الواقعِ لصالحِ “حماس”. من خلالِ تدميرِ القطاع ومجتمعه، قوَّضَت إسرائيل أيَّ هياكل اجتماعية قد تكونُ قادرةً على التصدّي لخياراتِ “حماس”، حتى مع أنَّ “حماس” هي الجهة الفاعلة الأكثر قدرةً على السيطرةِ على المشهد الواسع من الدمار الذي خلّقته إسرائيل.
الشيءُ نفسهُ سيحدُثُ في لبنان في حالةِ وقوعِ الحرب. المجتمع اللبناني، بغالبيته، يختلفُ مع “حزب الله”، وقد ظهرَ ذلك في مناسباتٍ لا حصرَ لها في السنوات الأخيرة. مع ذلك فإنَّ التهديدَ الإسرائيلي المُعتاد بإعادةِ لبنان إلى العصر الحجري من شأنه أن يقضي على النظامِ الاجتماعي الطائفي القادرِ على فَرضِ حواجز حمايةٍ داخلية ضد “حزب الله”، حتى أنَّ الحزب قد يتمكّنُ من الخروجِ من الحربِ في وَضعٍ أفضلٍ في المدى الطويل.
في واقعِ الأمر، لا يوجدُ على الساحة الفلسطينية سوى القليل من الدلائل التي تشير إلى أنَّ الحربَ في غزّة أدّت إلى إضعافِ “حماس” بشكلٍ كبير. بل على العكس، فقد سلّطت الضوءَ فقط على تهميشِ السلطة الفلسطينية، حيث يبدو أنَّ الشبابَ في الضفة الغربية يتبنّون خيارَ “حماس” المُتَمَثِّل في “المقاومة المسلحة”، بغضِّ النظرِ عن مدى الضرر الذي يُلحِقهُ ذلك بحياة الفلسطينيين.
في الأعوامِ المقبلة قد تدفع “حماس” حركة “فتح” جانبًا وتزيحها من الواجهة باعتبارها الفصيل الفلسطيني المُهَيمن، بل وربما تنضمُّ إلى منظمة التحرير الفلسطينية وتُسَيطِرُ عليها. وبالفعل، بدأت “حماس” في العام الفائت تحدّي “فتح” بشكلٍ غير مباشر في أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، “عين الحلوة”، مما يوحي بأنها تُمهِّدُ الطريقَ لهجومٍ أكبر بمجرّدِ مغادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس المشهد.
كلُّ هذا يَعمَلُ لصالحِ إيران. سيكونُ من التبسيطِ وصف حلفاء إيران بأنهم مُجرّد “وكلاء” أو “عملاء”، كما يميلُ العديدُ من المراقبين إلى الاعتقاد والقول. جميعهم نشطون ومُشاركون بإرادتهم في مشروعٍ إقليمي يَنظرُ إلى المصالح الإيرانية وكأنها تسير بالتوازي مع مصالحهم. وعندما يكسبون، تربح إيران؛ وعندما تكسب إيران، يربحون هم أيضًا.
بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، قد يبدو هذا الوضع غير مقبول. مع ذلك، ليس هناك الكثيرُ مما يُمكنهما فعله، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى أنَّ كلاهما مُنفَصِلان تمامًا عن الديناميكيات الداخلية في المجتمعات العربية. إنَّ الهجومَ العسكري ضد إيران لتغييرِ نظامها، والذي يَنظُرُ إليه بعض الإسرائيليين ومؤيديهم باعتباره الحلّ السحري لحل “مشكلة إيران” في المنطقة، من المُحَتَّمِ أن يؤدّي إلى صراعٍ أوسع نطاقًا يقودُ إلى طريقٍ مسدود، ولن يتغيّرَ إلّا أقل القليل.
ولا ينبغي لنا أن ننسى أنَّ مُعاملةَ إسرائيل المُرَوِّعة للفلسطينيين ورفضها حتى مجرّد التفكير في حلٍّ سياسي لاحتلالها هي التي سمحت لإيران باستغلالِ السخط الفلسطيني. فالنظامُ الإيراني مُتَّهَمٌ بتهريبِ الأسلحة إلى الضفة الغربية، وحتى إذا احتفظت إسرائيل بالسيطرة على مساحاتٍ واسعة من غزة، فمنَ المُرَجَّحِ أن تستمرَّ “حماس” في المقاومة، في حين تعمل على بسط نفوذها إلى مناطق أخرى حيث يتواجَدُ فلسطينيون.
مما لا شكَّ فيه أنَّ إيران دمّرت العديدَ من الدول العربية التي تعمل فيها، ما أدّى إلى تقويضِ سيادة هذه الدول وهياكلها وحتى العقود الاجتماعية الطائفية فيها. ولكي يزدهر النظام الإيراني الإقليمي، فقد تمَّ تدميرُ هذه البلدان. إنَّ ما يُسَمَّى ب”محور المقاومة” ليس في الواقع سوى محور البؤس. ولكن لكي تتم إطاحته، فإنَّ أيَّ تحدٍ يجب أن يأتي من داخل المجتمعات العربية نفسها، وليس من خلالِ عملٍ عسكري خارجي.
لا تملكُ إسرائيل والولايات المتحدة النطاقَ التردّدي أو الصبرَ أو الاهتمامَ للتأثير في التطورات في دولٍ مثل لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن. ومن المؤسف أنَّ إيران أمضت أكثر من عقد من الزمان، بل وأكثر من ذلك في بعضِ البلدان، في استخدامِ هذه العناصر الثلاثة لتحقيق أجندتها. والحربُ في غزة لن تُغيِّرَ ذلك، وقد بدأت إسرائيل ترى بالفعل قيودًا وحدودًا بالنسبة إلى لجوئها إلى العنفِ المُتطرِّف.
قد تكونُ مُعاناةُ الفلسطينيين غير مُحتَمَلة، لكنَّ إسرائيل لا تنتصرُ في غزة. وبالنسبة إلى إيران، فإنَّ هذا يخلقُ وضعًا مثاليًا لمواصلة استغلاله في المستقبل.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.