العِراقِيُّ الغامِض
قراءةٌ مُتَأخِّرةٌ في عَقلِ صدّام حسين

(10)
المُتَنافِران
سليمان الفرزلي*
نَقَلَ مَنْ سَمِعَ عَمّن حَضَرَ، أنَّ جمال عبد الناصر، في بعض مجالسه في القاهرة، زمن كانت “الوحدة” مع دمشق قد فُضَّت، والودُّ مع “البعث” انقطع، سألَ مُستَغرِبًا، كيف أنَّ بلدَين جارَين، يحكمهما حزبٌ واحد، وعقيدةٌ واحدة، يتناحران، ويتعاديان، ويُديرُ الواحدُ ظهره إلى الآخر، بدلًا من الانصهارِ في “اتحادٍ” أو “وِحدة”.
طافَ بعينيه على وجوهِ مَن حوله، فرأى عيونًا ضائعة، حائرة، وأفواهًا مُقطَّبة، فغيَّرَ الحديث.
لم يتكلّم جمال عبد الناصر، يومها، على البديهة، فعندما تخلَّى عن المشروع الذي عرضه عليه البعثيون السوريون سنة 1963، بإقامة “وحدة ثلاثية” تضمّ مصر والعراق وسوريا في دولةٍ واحدة، كان يظنُّ أن خروجه من ذاك المسعى، لعدمِ وجودِ اتصالٍ بري بين مصر والهلال الخصيب، يمكن أن يُسهِّل التلاقي الاتحادي بين دمشق وبغداد.
إنَّ السؤالَ الذي طرحه الرئيس المصري الراحل، دارَ على شفاهِ وألسنةِ المُشتَغلين في الفكر السياسي والمسائل “الجيو-سياسية”، وكانوا على حسن السمعة في مجالاتهم، ونزل على كثير من دراساتهم، ومقالاتهم، وحتى الكتب… إلّا أنَّهم حاروا جوابًا، أو قل إنهم ذهبوا مذاهب عدة في تفسير البُعاد والقطيعة بين البلدين الجارين وبين “البَعثَين”: “بعثٌ” فَصَّله العراقيون على مقاسهم، و”بعثٌ” استخدمه السوريون لتحقيقِ طموحاتهم، في الحكم، والتفرّد فيه. خصوصًا، أنه قبل الوحدة مع “مصر الناصرية”، في خواتيم خمسينيات القرن الماضي، كانت مفاضلة قطاع واسع من الأحزاب السياسية السورية، باستثناء “البعث”، بين التلاقي مع بغداد أو مع القاهرة، فاختارَ الأخيرة البعيدة، على الأولى الجارة القريبة!
أول ما يتبادَرُ الى ذهن الذين تناولوا أسباب التنافر بين دمشق وبغداد، ويطرقُ مسمعك، أنَّ مُقتضيات الإمساك بالسلطة، والانفراد بها، كانَ يُحتّمُ الابتعادَ عن المنطلقات القومية الأساسية لحزب “البعث”، الأمر الذي عَمَّقَ تبعات الاستفراد بالسلطة، ورسَّخَ النفور، والبُعاد إلى حدِّ القطيعة بين البلدين و”البعثَين”، فأصبحوا “وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ” (المؤمنون 100)!
هذا واقعٌ لا يختلف عليه اثنان، إلّا أنَّ هناكَ ما هو أدهى: “فقدان الكيمياء البشرية”، بين حافظ الأسد وصدّام حسين، والشعور بعدَمِ الراحة، والثقة… وهذا ما عمَّقَ الهوة، ولم يُسَهِّل التلاقي والتفاهُم.
لذلك، كان حافظ الأسد يميل الى التعاطي، ويُفضّلُ التخابُر، مع أحمد حسن البكر، من رئيسٍ إلى رئيس، ومن عسكريٍّ إلى عسكري، مُتجاوِزًا صدام حسين، وكان بعدُ “نائبًا للرئيس”، ولا يعترف به مُساويًا له لا بالصفة السياسية، ولا بالصفة العسكرية… ولم يتغيّر أيُّ شيءٍ في رأي أو تصرفات الرئيس السوري، حتى بعدما صفَّى صدام حسين “الضالعين” في ما سمَّاها “المؤامرة السورية”، وأزاح أحمد حسن البكر، وقبضَ على أعنَّة الحكم في عاصمة الرشيد.
راحَ التنافُرُ يأخذُ منحى ما، كانَ بين “الحالة الأموية” في دمشق و”الحالة العبّاسية” في بغداد، وكان أن قاربَ صدام حسين مرة هذه المُقارنة من باب الصراع بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب، تاركًا للتاريخ وحده أن يحكُمَ بينه وبين حافظ الأسد حولَ مَن هو “علي”، ومَن هو “معاوية”!
***
لم تَكُن الدنيا تتسع لحافظ الأسد وصدّام حسين. إن كانت “غريزة الفردانية”، كما سماها أرسطو، التي تقومُ على حسابِ مفهومِ الدولة، تجمع بينهما، وإن كان العنفُ والاستئثار، وتوظيف السلطة لخنق الإرادات وتغييب المعارضين والتنكيل بهم، والتضييق عليهم بكل الوسائل، سماتٍ يشتركان فيها… إلّا أنَّ “التركيبَ الشخصي” لكُلٍّ منهما، يختلفُ في العُمقِ بينهما.
كان حافظ الأسد جنديًا، درس فنون القتال، واحترف، وتدرّجَ في الرُتَبِ والمراتب الى الأعلى والأهم، بينما بقي صدام حسين يُعاني من عقدةِ نقصٍ في مسيرته الى القمة بأنه لم يكن جنديًا، وما خاضَ حربًا، ولا شارك في قتال. وقد لامست آبريل غلاسبي، سفيرة الولايات المتحدة لدى بغداد، (التي قاد سوء فهم صدام حسين لها إلى غزو الكويت)، هذه العقدة، فشبّهته بالشاهنشاه محمد رضا بهلوي: “نحنُ نعلمُ أنه لم يُقاتل دقيقةً واحدة، وأنه لم يدخل الجيش على الإطلاق، ولم يكن يعرف شيئًا عن الجيوش، لكنه على غرار شاه إيران، كلما ازدادَ عظمةً اعتبرَ أنه ازدادَ معرفة، فأصبح فجأة خبيرًا بالمعدّات العسكرية، والإصلاح الزراعي، والثقافة وبكل شيء آخر”…
إلّا أَّن آبريل غلاسبي اعترفت لصدام حسين “بالهيبة”، ووصفتها بأنها “هيبةٌ ترويضية” لأيِّ مُتحدّثٍ معه، وعزت ذلك إلى “جهله”. ومضت تكتب: “إنه كانَ جاهلًا لدرجةٍ لا تُصدَّق على الرُغمِ من أنه لم يكن رجلًا غشيمًا”. أو بتعبيرٍ آخر: كان “غاشمًا وليس غشيمًا”، وعندما تجرّأ على الوقوف في وجه الولايات المتحدة، في وقتٍ كانت كفّةُ التوازُن العالمي راجحة لها، بعد تفكك وانهيار الإتحاد السوفياتي، ردعته بالقوة الغاشمة الأعظم في العالم.
لقد بقيت “البداوة” و”العشائرية” من السمات الطاغية في شخصية صدام حسين على الرُغم من أنه حاولَ إخفاءَ ذلك بالمظهرِ الخارجي “المُتَفَرنِج”، بتصميم ملابسه، وربطات العنق، والقبعات الكلاسيكية، المُوَقَّعة من أشهر بيوتات الأزياء الأوروبية، وسيجاره الكوبي الفاخر. وفي الوقت ذاته كان حريصًا على عدم الانغماس في تلك العادات، بقوله ذات يوم، إنه لا يريدُ لأيِّ عادةٍ أن تتحكَّمَ به.
***
“إنَّ صدّام حسين الأقدر على التآمر، بينما حافظ الأسد الأقدر في التخطيط”.
كانت آبريل غلاسبي على صواب، الأوّل أداته السيف والخنجر، والثاني قفّازات مخملية، وقدرة فائقة على الاحتمال، وذكاء خارق، ونفس طويل في التفاوض. فقد دامت مفاوضات الأسد مع هنري كسينجر 136 ساعة في 12 لقاءً خلال شهر واحد.
في كتاب مذكراته “سياسة الديبلوماسية” ( The Politics of Diplomacy) يرسم جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، صورةً أُخرى للرئيس حافظ الأسد تُبَيِّنُ مدى الاختلاف والتعارُض بين الرئيس السوري ونده الرئيس العراقي، فيروي ما حدث معه في لقاء الرئيس الأسد في 23 من نيسان (أبريل) سنة1991 برفقة إدوارد دجرجيان، سفير واشنطن لدى دمشق، وصار يُعرف بأنه: “ديبلوماسية فقع المثانة”، أو “ديبلوماسية المبولة”!
وصف بيكر ذلك اللقاء بأنه ” أصعب، وأشق مفاوضات أجريتها على الإطلاق، ووجدتُ أن مفاوضاتي الطويلة مع السوفيات للحد من التسلح، أسهل بكثير”!
استغرقَ الاجتماعُ مع الأسد يومها تسع ساعات وستًا وأربعين دقيقة من دون انقطاع في غرفةٍ يصفها جيمس بيكر بأنها: “خانقة، لا تُطاق، لا يسري فيها سوى النُذُر القليلة من الهواء المُكَيَّف، بنوافذ مغلقة، مغطاة بستائر سميكة، زيتونية اللون”.
ويُخبِرُ أيضًا: “بعد ست ساعات على بدء اللقاء، ألحَّ نداء الطبيعة على السفير دجرجبان، بينما كان الأسد يُسهِبُ في مستطيل الكلام، ويزيد، ويُعيد، عن “اتفاقية سايكس- بيكو”، وتبعاتها، وأثارها السيئة، والسلبية في المنطقة”…
ويتناول الوزير الأميركي الكلام: “ازداد موقف السفير دجرجيان حرجًا، فكتب لي على قصاصة ورق صغيرة، ظننتُ أنه يريدني أن أثيرَ مع الرئيس الأسد قضيّة سياسية، ففاجأني بجملة: “هل يمكنني الذهاب الى دورة المياه”؟
ويمضي جيمس بيكر:” بعد أكثر من ساعة على عودة السفير دجرجيان، سحبتُ منديلًا أبيض اللون، ولوَّحت به للرئيس الأسد، وأعلنتُ استسلامي، وقلت: عليَّ أن أذهب الى الحمَّام”!
***
كانَ “البعث” بالنسبة الى صدام حسين وحافظ الأسد غطاءً مثاليًا لإخفاء المُرتكزات الحقيقية للسلطة، لا سيما وأنَّ الحزب، بمفهومه الأصلي أو التأسيسي، لم يَعُد موجودًا في الواقع، لا على الصعيد القومي، ولا على الصعيد القطري، إلّا كإطارٍ هيكلي في خدمة السلطة القائمة وأهدافها المضمرة.
إنه إطارٌ من ثلاثة أقانيم، هي أشبه بالثالوث “المُقدَّس”: السلطة المُطلَقة، والإمساكُ بالحُكمِ بأيِّ ثمن، والغطاءُ العقائدي”.
ليسَ أدَلَّ على الفارق بين البعث السوري والبعث العراقي، من أنَّ الأوّل استمرَّ في الحكم بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 إلى اليوم بصورةٍ مُتواصِلة، بينما البعث العراقي أُسقِطَ مرّتين: المرة الأولى، على يدِّ شريكه السابق عبد السلام عارف في العام 1963، بدعمٍ من عبد الناصر، والثانية، على يد الاحتلال الأميركي، الذي جعل من “اجتثاث البعث” نهجًا مُستدامًا للسلطة التي أقامها في بغداد على أنقاضِ نظامِ صدّام حسين.
انعقدَ المؤتمر القومي السادس لحزب البعث، في خريف العام 1963 بحضورِ ميشال عفلق، وغيره من المؤسّسين القدامى، بمَن فيهم بعض أعضاء القيادة العراقية المطرودين من بلدهم، أو اللاجئين في الخارج، بعد انقلاب عبد السلام عارف. ومن الطبيعي أنَّ هؤلاء لم تكن كلمتهم مسموعة، شأن رفاقهم السوريين المتربّعين على كرسي الحكم، وبمفردهم من دون أيِّ شريك.
ما ناله البعثيون العراقيون الداعمون بقوة في ذلك المؤتمر للقيادة القومية للحزب، وعلى رأسها ميشال عفلق، لم يتعدَّ وعدًا بإقرار مَبدَإِ “الاتحاد الفيدرالي” الكامل بين سوريا والعراق، (في حال عودة البعث إلى السلطة في بغداد)، وكلُّ ما عدا ذلك جرى في اتجاهاتٍ مُغايرة، تحت عنوان مختصره: “التخلّي عن المُبالغة في تقديم الشأن القومي على الشأن الوطني (القطري)”، لأنَّ ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى مغامراتٍ طائشة، وغير محسوبة، أو حتى صبيانية. وهذا انتقادٌ مُبَطَّنٌ للقيادات العراقية التي شاركت في الانقلاب على عبد الكريم قاسم وما لبثت أن خسرت الحُكم بفعلِ تهوُّرها وطَيشها!
الملفت أنَّ حافظ الأسد تسلّحَ بهذا التعليل عندما قلب نظام صلاح جديد بعد التدخُّلِ العسكري السوري الفاشل في حوادث “أيلول الأسود” 1970، بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية.
أمّا الاتجاهُ المُغاير الآخر في المؤتمر السادس، فهو الجنوحُ إلى اليسار في الشأنِ القطري، إلى درجةِ اتهامِ القيادةِ القومية التاريخية للحزب، مُمَثّلةً بميشال عفلق، بأنها “يمينية”، وتحت هذه اليافطة جرى تاليًا انقلاب صلاح جديد على تلك القيادة القومية مطلع العام 1966.
بهذه المبالغة اليسارية للبعث في سوريا تسلّحَ حافظ الأسد في انقلابه عليها أواخر العام 1970. وكان مُلفتًا في أعقابِ المؤتمر القومي السادس، أن حمود الشوفي، الذي كان من أقطاب التيار اليساري المُغالي في ذلك الاتجاه، هو الذي انتُدِبَ لتلاوة البيان الختامي للمؤتمر!
بين “القومي” و”القطري”، وبين “اليمين” و”اليسار”، جاءت عودة البعث العراقي الى السلطة في العام 1968 بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين، في نظر المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، في العالم العربي وفي الخارج، وتبنّيها لميشال عفلق، قبل أن يتبنّاها هو، وكأنها لابسة الثوب “اليميني” المُزَركَش بشعاراتٍ قومية.
مع ذلك، فإنَّ حافظ الأسد لم يقطع شعرة معاوية، لا مع ميشال عفلق، ولا مع نظيره العراقي أحمد حسن البكر (كما مرَّ)، وصولًا إلى المحاولة الاتحادية التي انقضَّ عليها صدام حسين، انقضاض الكواسر في لحظةِ اكتمالِ بلوغها.
***
من البداية، ناصبَ صدّام حسين العداء لحافظ الأسد، مع أنَّ مسألةَ التدخُّلِ في الصراع الأردني–الفلسطيني، وقتذاك، تحكي حكايةً أخرى.
ففي العام 1970، طوى حافظ الأسد صفحةَ التدخُّلِ في الأردن، فانسحبت القوات السورية بعد فشلها بفعلِ تعذُّرِ الغطاءِ الجوي لها، (لامتناع الأسد بصفته وزيرًا للدفاع وقائدًا لسلاح الجو عن التدخل قبيل أيام من انقلابه على شركائه السابقين “اليساريين” في الحزب).
في الوقتِ ذاته، قرّرت القيادة العراقية سحب الجيش المُرابط في “الجبهة الشرقية” (قوات صلاح الدين)، في بداية الاشتباكات الأردنية-الفلسطينية، خلافًا لما كان يتوقع معظم البعثيين الموالين للعراق، وكذلك كثيرون من العرب.
لذلك، اعترفَ طارق عزيز لميشال عفلق، وكُنتُ حاضرًا في قصر الرشيد، يوم 7 نيسان (أبريل) 1975 (كما مرَّ)، بأنَّ التراجُعَ الوحيد الذي اضطرّت إليه القيادة العراقية في مسيرتها هو الانسحاب من الأردن، لأنَّ طارق عزيز، الإعلامي العتيق، يعرفُ أنَّ الاعترافَ بالخطَإِ أسلم من نكرانه. ولهذا اضطرَّ صدّام حسين إلى زيارة بيروت مُتنكّرًا لتبرير الأمر أمام ميشال عفلق في حينه، ولتهدئة ردود الفعل السلبية داخل التنظيمات الحزبية خارج العراق.
لم يُؤخَذ التدخُّل السوري، في ظل قيادة صلاح جديد، على مَحمَلِ الجَد… ولذلك، أحدثَ انقلابُ حافظ الأسد ارتياحًا كبيرًا في سوريا، فجاءَ الانسحابُ السوري غير ملحوظ، وكأن تلك القيادة عادت من تلك المغامرة مهزومة، وتستحقُّ ما حلَّ بها، بفعلِ مُزايداتها الادّعائية!
من ذلك الوقت، بدأ صدّام حسين يُطلِقُ مواقفَ عدائية ضدّ الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي ظلَّ سابقه بخطوةٍ في المواقف الكبرى، كما جرى في الأردن، وتاليًا كما جرى في بغداد ذاتها، عندما وَقَّعَ الرئيس السوري الأسد مع نظيره العراقي أحمد حسن البكر “ميثاق العمل القومي”، الذي انقلبَ عليه صدّام وعلى السائرين فيه انقلابًا أشبه بمجزرة محمد علي باشا لمماليك مصر في “القلعة”!
***
حقيقة القول، بأنَّ التنافُرَ بين صدّام حسين وحافظ الأسد، أقدم عهدًا من وصولِ صدام الى سدّة الرئاسة في بغداد، وربما يعود إلى ما قبل وصول البعثيين الى الحُكم في العام 1968، أي الى قبل عشر سنوات من توقيع “ميثاق العمل القومي”. هناكَ مَن يعزو ذلك التنافُر إلى مداولاتِ المؤتمر القومي السادس للحزب في دمشق في العام 1963.
ففي العام 1975، نشأت أزمة بين سوريا والعراق بسبب مياه نهر الفرات. وقد اتّهمَ صدّام حسين، وكان “نائباً للرئيس”، حافظ الأسد بأنه حجزَ في بحيرة السدّ التي تحمل اسمه (سد الطبقة) في محافظة “الرقة”، كميات من مياه الفرات أكبر مما يحق له، بهدف الضغط على الحكم البعثي المنافس في بغداد. وقد شنَّ الإعلام العراقي حملات مريرة على الأسد، بتوجيهٍ من صدام حسين، حيث بلغت حدَّ “التخوين”.
وصادَفَ أن كُنتُ في بغداد آنذاك، وقمتُ بزيارةٍ إلى طارق عزيز في مكتبه بوزارة الإعلام، فأبلغني أنَّ “السيد النائب” سيقومُ بزيارةٍ خاصة ومُفاجئة إلى موسكو لعَقدِ لقاءٍ مع القيادة السوفياتية، مُلَمِّحًا أنها تتعلّقُ بالخلاف مع سوريا حول مياه الفرات، وسألني ما إذا كُنتُ أرغبُ في الانضمامِ إلى الوفد الإعلامي، وفي عداده الصحافيان اللبنانيان أسعد المقدّم، وعلي هاشم، فقبلت.
في العادة أنَّ الزيارات الرسمية تستغرقُ ثلاثة أيام، لكن تلك الزيارة الى موسكو دامت أقل من 24 ساعة، لأنَّ اللقاءَ الأول الذي جرى في قصر الضيافة بين نائب الرئيس العراقي، ورئيس الحكومة السوفياتية أليكسي كوسيغين، لم تأتِ بنتائج إيجابية.
في صالون الطائرة الخاصة التي أقلت الوفد العراقي، دارت “دردشة” بين الصحافيين وصدام حسين، حول الزيارة، ومشكلة انحباس مياه الفرات. فسألتُ “السيد النائب”، عن جدوى الحملات الإعلامية التي تصفُ مُمارسات حكم البعث السوري “بالخيانة”، فيما هي مشكلة غير سياسية، وإن كانت لها، ربما، نتائج أو أهداف سياسية، فقال: ” ما من حاكم يختارُ الخيانة، لكن من الممكن استدراجه إليها”!
نشرتُ ما دارَ في هذه الدردشة، في اليوم التالي، على صفحات جريدة “بيروت” التي كُنتُ أرأس تحريرها. حدثَ ذلك بعد يومين فقط من تردّي الوضع في لبنان بفعلِ انفجارِ بوسطة عين الرمانة يوم 13 نيسان (أبريل) 1975. فقد وقع ذلك الانفجار ونحنُ في موسكو، وعلمتُ به من الزميل أسعد المُقدّم الذي استقاه من مكالمة هاتفية مع مكتبه في بيروت. هو يومٌ مشهودٌ لا يُنسى، أن ينفجِرَ لبنان ونحن برفقة صدام حسين في موسكو، وفي حلقه مرارة من حافظ الأسد، ومن القيادة السوفياتية في آنٍ معًا!
جرت الزيارة الخاطفة لصدام حسين إلى موسكو بعدَ شهرٍ واحدٍ فقط من اتفاقية الجزائر بينه وبين شاه إيران (6 آذار/ مارس 1975)، ويُمكِنُ التقدير بأنَّ احتدامَ الخلاف بينه وبين حافظ الأسد، وما استتبعه من حملاتٍ إعلامية، كان من نتائج تلك الاتفاقية، لكونِ الفريقَين كانا يَطلُبان ودَّ الشاه في ذلك الوقت. لكن الافتراق الحاسم، جرى بعد الثورة الخمينية، فخالفها صدام وحالفها الأسد.
***
العام 1982، قرَّرَ صدام حسين إغلاق خط انابيب النفط العراقي عبر سوريا، (من كركوك الى بانياس)، بسبب تأييد الرئيس السوري حافظ الأسد لإيران في الحرب مع العراق، وبقي هذا الخط مقطوعًا الى ما بعد وفاة الرئيس الأسد في العام 2000، فتمَّ تشغيله إلى حين في بداية عهد نجله بشار الأسد، إلّاَ أن الأميركيين في غزوهم للعراق في العام 2003، قصفوه وعطّلوه، وبقي مُعَطَّلًا إلى اليوم.
لقد بلغ الخلافُ والتنافرُ بين الرئيسين العراقي والسوري ذروتهما بعد احتلالِ العراق لدولة الكويت صيف 1990، عندما انخرط الرئيس السوري في التحالف الدولي الذي شكّله الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، لصدِّ العراق و”تحرير” الكويت. وذهب الأمر بالأسد أن شكّلَ فرقةً عسكرية وازنة انضمّت الى التجمّع الدولي العسكري في المملكة العربية السعودية.
أمّا في زمن الحصار الدولي على العراق، عندما قام صدام حسين بفتح مسارب المُهرِّبين (“القشاقجية”، حسب التعبير العراقي)، فاستدعى المهربين المحترفين عبر الحدود، وخاطبهم قائلًا: “هذا يومكم فلا تدعوا شعبكم يُذَلُ ويموتُ جوعًا”… فقد لانت الأمور بين الطرفين بمبادرة من صدام حسين، وكان ذلك في صيف سنة 1995.
لم يغلق حافظ الأسد باب دمشق في وجه صدام حسين، عندما جاء يطرقه، لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين. إلّا أنَّ الرئيس السوري ظلَّ حذرًا لأنه لم يكن واثقًا من غاية الرئيس العراقي من هذا الانفتاح.
لذلك، في رسالةٍ غير مباشرة بعثَ بها صدام حسين إلى حافظ الأسد، أكّدَ له فيها أنَّ الغاية لا تتعلّقُ بموضوع الحصار الأميركي المفروض على العراق، بل ب”مسألة الأمن القومي للأمة العربية”. أراد فتح صفحة جديدة، ونسيان المرحلة السوداء، التي أعقبت انقضاضه الدامي على “ميثاق العمل القومي”.
تلك المرحلة كانت بالغة الحساسية بالنسبة إلى الفريقين لأسبابٍ إقليمية تتعلّقُ بالتوجُّهات الأردنية المُستَجِدة نحو الاتفاق مع إسرائيل، وبالتوجُّهات التركية نحو بناءِ مزيدٍ من السدود، مما يؤثّرُ سلبًا على الموارد المائية لكلٍّ من سوريا والعراق.
بل إنَّ صدام في إحدى رسائله عرض على الرئيس الأسد لقاءً سريًا بينهما على الحدود للتفاهم على كلِّ الأمور العالقة وجاهيًا!
هل تمَّ الاجتماع بين المُتنافِرَين؟ … لا أدري!
الحلقة الحادية عشرة بوم الأربعاء المقبل: (الغاصِب).
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.