إنهيارُ حزب المحافظين سيُعيدُ تشكيلَ السياسة في المملكة المتحدة

ألكسندر كلاركسون*

بَعدَ عَقدٍ من الاضطرابات، تبدو المملكة المتحدة على أعتابِ تجربةِ لحظةٍ أُخرى من التغييرِ الصادم، حيثُ أصبح حزب المحافظين الذي كان عظيمًا ذات يوم والذي سيطرَ على الدولة لقرون، غارقًا في أزمةٍ نهائية. إنَّ الهزيمةَ الانتخابية التي تلوحُ في الأفق للحزب، والتي كانت مُتَوَقَّعة منذ فترة طويلة وأكّدتها استطلاعات الرأي على ما يبدو منذ أعلن رئيس الوزراء ريشي سوناك عن إجراء الانتخابات العامة في الرابع من تموز (يوليو) المقبل، تُهدّدُ نظامًا إجتماعيًا، بدا سابقًا أبديًا، بالاختفاء المفاجئ.

يُعتَبَرُ هذا الانهيار أكثر استثنائية وغريبًا نظرًا إلى الانتصارِ الساحق الذي حقّقهُ حزب المحافظين تحت قيادة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون في كانون الأول (ديسمبر) 2019.  لقد عرف حكم خليفة جونسون رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي ضعفًا بسبب الاقتتال الداخلي بين فصائل الحزب المتنافسة في أعقاب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في العام 2016، والذي بلغ ذروته في استقالتها في أيار (مايو) 2019 وما تلاها من طردِ نوابٍ من الحزب دافعوا عن انفصالٍ أكثر ليونة عن الاتحاد الأوروبي. في عهد جونسون، استعادَ المحافظون الإحساس بالهدف الذي جعلهم يحصلون على أكبر غالبية برلمانية منذ الثمانينيات الفائتة.

إنَّ الفضائحَ الناجمة عن افتقارِ جونسون للانضباطِ خلال جائحة كوفيد-19 وضعت حزب المحافظين تحت ضغطٍ شديد بحلول الوقت الذي استقال فيه في صيف العام 2022. ولكن حتى بعد الولاية القصيرة لرئيسة الوزراء السابقة ليز تروس، التي وَلّدت موازنتها الكارثية حالةً من الذُعرِ على المستوى المالي في الأسواق، فإنَّ وضعَ الحزب لم يَبدُ ميؤوسًا منه تمامًا.

عندما تولى سوناك منصبه بعد استقالة تروس في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، لم تكن الآمال في أن تتمكّن قيادةٌ أكثر كفاءةً من رَسمِ طريقٍ لتعافي حزب المحافظين في غير محلّها تمامًا. لكنَّ الأخطاءَ التكتيكية التي ارتكبها فريق سوناك مكّنت حزبَ العُمّال المُعارض بقيادة كير ستارمر من التغلّبِ على مشاكله الداخلية والحفاظ على تقدّمه ب20 نقطة في استطلاعاتِ الرأي لأشهرٍ عدّة. ومع الانحدار السريع في حظوظ حزب المحافظين الذي رافقته إخفاقات القيادة التي بدأت مع سوء إدارة رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون لاستفتاءِ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسِـت) في حزيران (يونيو) 2016، من المتوقع أن يميلَ العديدُ من أعضاء البرلمان من حزب المحافظين إلى إلقاء اللوم على عدم الكفاءة الفردية في انهيار حزبهم. لكنهم سيضطرّون قريبًا إلى مواجهةِ العوامل البنيوية التي تُمزُّقُ أسُسَهُ.

طوالَ حقبة هيمنته الطويلة، كانت قدرة حزب المحافظين على الفوز بالانتخابات وتشكيل الدولة البريطانية ترتكز على دَعمِ قاعدةٍ اجتماعية واسعة. منذ ظهور السياسة الانتخابية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر في عهد رؤساء وزراء حزب المحافظين مثل بنيامين دزرائيلي وروبرت سالزبوري، نجحَ الحزبُ في تحقيقِ التوازن بين مصالح الائتلاف الانتخابي الذي ضمَّ المصرفيين في لندن، والمهنيين من الطبقة الوسطى، والمزارعين الأثرياء، وأعضاء الطبقة العاملة المحافظين ثقافيًا. في هذه العملية، أصبحَ نظامُ قِيَمِ حزب المحافظين مُرادِفًا للروحِ الثقافية التي تؤكّدُ على الخدمة العامة واحترام التقاليد.

لعقودٍ، كانت هذه الثقافة المشتركة للمحافظين بمثابةِ الغراءِ الذي لَحَمَ مزيجًا إيديولوجيًا واسعًا من الفصائل معًا. وعلى الرُغم من كلِّ خلافاتهم حول السياسة، فإنَّ الالتزامَ بتقاليدِ حزب المحافظين المُشتَرَكة كانَ يعني أنَّ القوميين اليمينيين المُتشدّدين، والليبراليين المؤمنين بقطاعِ عامٍ صغير، وما يُسمى “الأُمة الواحدة” لليبراليين الاشتراكيين، ظلّوا على استعدادٍ للقبول بتسويةٍ تحت شعار وحدةِ الحزب. وحتى مارغريت تاتشر، زعيمة الحزب التي تمتّعت بإحساسٍ قوي بالمُهمّة الإيديولوجية، كانت على استعدادٍ لخَلقِ مساحةٍ في حكومتها لأعضاءٍ قياديين من الفصائلِ الإيديولوجية الأُخرى داخل الحزب من أجلِ الحفاظ على قاعدتها الاجتماعية الواسعة.

على الرُغم من أنَّ الخلافاتَ حول التنوّعِ الثقافي وحَجمِ دولةِ الرفاهية ساهمت أيضًا في الانقسامات الحزبية، إلّا أنَّ النزاعَ العنيف منذ أوائل التسعينيات الفائتة حول عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي المُتزايد قوةً وعلاقتها به شكّلَ العاملَ الذي لعبَ دورًا كبيرًا في تسريع انهيار حزب المحافظين. بدءًا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سعت قيادةً حزبية ضعيفة إلى تهدئة الفصائل اليمينية المُعادية بشكلٍ أساسي للاتحاد الأوروبي، ما أدّى إلى الاستفتاء الذي نتجَ عنهُ خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في عهد كاميرون. بعدها تعثّرت المفاوضات مع بروكسل التي أعقبت ذلك في شهر أيار (مايو). ثم لم يُظهر جونسون أيَّ ندمٍ على استعداءِ النواب المعتدلين والمعارضين للانفصالِ الجذري عن الاتحاد الأوروبي في جهودهِ الشعبوية لاستعادة القوة الانتخابية لحزب المحافظين، والتي تضمّنت مغازلة الناخبين المؤيدين ل”بريكسِت” في الدوائر الانتخابية التي تُهيمِنُ عليها الطبقة العاملة.

مع إعادة تشكيل حزب المحافظين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أدّى صعود فصائله اليمينية إلى قطعِ علاقاته مع المهنيين من الطبقة المتوسطة وطبقة النبلاء الريفية الذين شكلوا التجميل والتقاليد التي تُحدّدُ ثقافة المحافظين. في مواجهة المنافسة على ولاء الناخبين اليمينيين من “حزب الإصلاح” الذي يتزعمه نايجل فاراج، واصلت قيادة حزب المحافظين بقيادة سوناك مضاعفة سياساتها المناهضة للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين والمؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي لم تؤدِّ إلّا إلى زيادة نفورالمهنيين الجامعيين المُدرَّبين الذين شكّلوا العديد من الأجيال السابقة من نواب حزب المحافظين ووزراء الحكومة.

أدّى هذا التفكك في ائتلاف المحافظين القديم إلى خلق فرصٍ هائلة للأحزاب المتنافسة. ردًّا على حملة سوناك الكارثية، تحدثت شخصيات بارزة في “حزب الإصلاح” علنًا عن اندماجٍ بين حزبهم وفصائل حزب المحافظين اليمينية المتطرفة التي يشترك عداؤها العميق تجاه المهاجرين والاتحاد الأوروبي في الكثير مع شعبوية فاراج القومية. ومع عدم وجود أي حاجة لتهدئة حزب المحافظين لليبراليي “الأمة الواحدة” الذين سينسحبون من مثل هذه الصفقة مع فاراج، فإنَّ هذا النوع من الحركة الشعبوية اليمينية المتطرفة على نحوٍ متزايد سوف تتمتّع بقدر أكبر من التماسك الإيديولوجي على حساب القدرة على بناءِ ائتلافٍ انتخابيٍّ واسع النطاق.

وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ المجموعات الاجتماعية الأكثر وسطية، التي كانت روح الطبقة المتوسطة التي حددت ذات يوم ثقافة المحافظين، تحوّلَ دعمُها بشكلٍ واضح إلى الحزب الديموقراطي الليبرالي التقدّمي المؤيد للاتحاد الأوروبي. علاوةً على ذلك، وفي سعيهم إلى تحقيق التوازن بين الأسواق الحرة وتدخل الدولة لحماية الاستقرار الاجتماعي، أصبح الديموقراطيون الليبراليون الآن أقرب إلى النظرة العالمية لحزب المحافظين قبل تاتشر من الراديكالية الليبرالية الجديدة التي ساعدت في إطلاقها. وحقيقةُ أنَّ أغلب أعضاء البرلمان والمرشّحين من الديموقراطيين الليبراليين ينتمون إلى مجموعاتٍ اجتماعية كانت في ثمانينيات القرن العشرين في قلب ائتلاف تاتشر الانتخابي تعكس مدى انجراف المملكة المتحدة بالفعل نحو مشهدٍ سياسي ما بعد حزب المحافظين.

إن أخطاءَ سوناك الفادحة -وكان آخرها قراره بترك الاحتفالات بالذكرى الثمانين ليوم النصر من أجل حدثٍ انتخابي، والذي اضطر إلى الاعتذار عنه- تثير الآن حالة من الذعر بين أعضاء حزب المحافظين في البرلمان في الأسابيع الأخيرة قبل يوم الانتخابات في 4 تموز (يوليو). لكنَّ المسرحَ كانَ مُهَيأً قبل ذلك بوقت طويل لوفاة تقليد حزب المحافظين الذي شكل سياسة المملكة المتحدة وثقافتها لقرونٍ عدة. ومع انهيار هذا التقليد القديم، فإنَّ الأمرَ لا يقتصرُ على حزبٍ سياسي يقترب من نهايته، بل على نظامٍ سياسي.

  • ألكسندر كلاركسون هو محاضر في الدراسات الأوروبية في جامعة كينغز كوليدج في لندن. يستكشف بحثه تأثير مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945، وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام حدود الاتحاد الأوروبي على علاقاته مع الدول المجاورة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى