وزير خارجية تركيا في الصين: ترجمةُ زيارةٍ صامتة
نظرًا للأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها، تحتاج تركيا بشدة إلى الاستثمار من الصين لتنفيذ مشاريع البنية التحتية الرئيسة، بما في فيها تلك الموجودة في مجالات النقل والطاقة النووية.
كاغداش أنغور*
ربما ستظلُّ الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الصين في الفترة من الثالث إلى الخامس من حزيران (يونيو) في الأذهان في الأساس بسبب عنوانها الرئيس الذي يمت بصلة إلى مجموعة البريكس+. وعندما أشار فيدان إلى اهتمام تركيا بالتحوّل إلى عضوٍ في هذا النادي المتوسِّع للجنوب العالمي ــ وهو تجمع فضفاض من الدول النامية الكبرى (في الأصل البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا)ــ أعاد تغذية المناقشة القديمة حول “تحوّل محور” تركيا. قبل عشر سنين، كان الموضوع الرئيس لتلك المناقشة هو منظمة شنغهاي للتعاون، وكان السؤال آنذاك هو ما إذا كانت رغبة تركيا في الانضمام إليها تُهدّدُ عضوية البلاد في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أم لا. ورُغمَ أنَّ نبرةَ مجموعة البريكس أكثر ليونة ــ إن لم تكن أهدافها أكثر غموضًا ــ من منظمة شنغهاي للتعاون ذات التوجّه الأمني، فإنَّ القضية الأساسية تظل كما هي اليوم: لماذا ترغب تركيا في الانضمام إلى نادٍ بديل تديره الصين وروسيا؟
بينما كان الجمهور الغربي مُنشغلًا بهذا السؤال، بدا الجمهور التركي أكثر اهتمامًا بمحطة شينجيانغ في رحلة الوزير فيدان، حيث كان أول مسؤول تركي رفيع المستوى منذ أكثر من عقد يُسمح له بزيارة منطقة شينجيانغ الأويغورية ذاتية الحكم في الصين. كانت مسألة معاملة الأويغور العرقيين في شينجيانغ (التي يشار إليها عادة في تركيا باسم “تركستان الشرقية”) بمثابة أكبر شوكة في العلاقات الصينية-التركية، حيث أدى تصريح رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان في العام 2009 عن “الإبادة الجماعية تقريبًا” التي تحدث هناك إلى تدنّي مستوى العلاقات الديبلوماسية الثنائية إلى أدنى مرتبة. ومنذ ذلك الحين، أدّى صعود الصين المستمر إلى مكانة القوة العظمى وخيبة أمل تركيا المتزايدة تجاه الغرب إلى تغيير كل شيء بشكلٍ جذري. وبصرف النظر عن الجاذبية المتزايدة للاستثمارات والقروض الصينية، بدأت أنقرة أيضًا تنظر إلى بكين باعتبارها ثقلًا موازنًا ضروريًا لهيمنة الولايات المتحدة. وعلى عكس العديد من حلفائها في الناتو، لا تزال تركيا تنظر إلى الصين باعتبارها شريكًا وليس منافسًا، أو تحدّيًا أمنيًا، أو تهديدًا وجوديًا.
ونظرًا للأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد، تحتاج تركيا بشدة إلى الاستثمار من الصين لتنفيذ مشاريع البنية التحتية الرئيسة، بما في فيها تلك الموجودة في مجالات النقل والطاقة النووية. وتسعى أنقرة أيضًا إلى التعاون مع الشركات الصينية في مجال التكنولوجيا، وهو ما تَجَسَّدَ في صفقة الجيل الخامس الأولية التي أبرمتها شركة “تورك تيليكوم” (Türk Telekom) مع شركة “هواوي” (Huawei)، والتي يبدو أنها لم تُثِر أي مخاوف أمنية أو خصوصية في تركيا. وتشعر بكين وأنقرة بعدم الارتياح إزاء قيام الحكومات الغربية بإملاء قواعد اللعبة، بما في ذلك الأعراف والقيم الدولية. وأثناء الزيارة التي قام بها فيدان أخيرًا، أكد نظيره الصيني وانغ يي على أنَّ الصين لا تُحبُّ الدول الأجنبية التي تتدخّل في شؤونها الداخلية باسم تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان. وعلى هذا فإنَّ العناوين الفرعية لتصريحات وزير الخارجية الصيني ربما كانت ببساطة تعني “شينجيانغ”، ولكن زيارة فيدان للصين تزامنت أيضًا مع الذكرى السنوية لمظاهرات ميدان تيانانمان. وبما أن قمع الحزب الشيوعي الصيني للحركة الديموقراطية في الصين في العام 1989 لم يلقَ قط أيَّ ردِّ فعلٍ أو اهتمامٍ من جمهور تركي كبير، فإن هذه المصادفة لم تزعج أحدًا في تركيا. ولا تستضيف الأناضول الكثير من مجتمع الهان الصيني المنشق (باستثناء عدد قليل من أعضاء “فا لون غونغ” المنتشرين حول إسطنبول)، لذا لا يوجد هناكَ مَن يُذَكّر الجمهور التركي بهذا الحدث المأسوي. ما لدى تركيا، بدلاً من ذلك، هو مجتمع كبير من الأويغور، الذي يتوقع من الحكومة التركية الضغط على بكين ومساعدة أعضائه على التواصل مع أفراد أسرهم المفقودين منذ فترة طويلة في شينجيانغ. ولا يبدو أن ديبلوماسية فيدان الصامتة قد حققت الكثير في هذا الصدد.
بكلِّ إنصاف، لم يؤيّد الوفد التركي تدابير “مكافحة الإرهاب” التي اتخذتها الصين في منطقة شينجيانغ ذاتية الحكم – على غرار الزائرين السابقين من فلسطين، أو باكستان، أو الجامعة العربية. لكن لا يزال يتعيّن على الحكومة التركية أن تستجيب أمام ناخبيها، أي الجماعات المحافظة والقومية التي تصوّت لصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم وشريكه في الائتلاف، حزب العمل القومي. ويحتضن هؤلاء الناخبون أقلية الأويغور في الصين بسبب هويتها الإسلامية وتراثها الثقافي واللغوي التركي. وليس من المستغرب أن تكون إشارة فيدان إلى مدينتَي كاشغر وأورومتشي في شينجيانغ باعتبارهما فرعَين من الحضارة “التركية الإسلامية” بمثابة موسيقى تطرب آذان الأويغور. ولكن في غياب الملاحظات الصريحة بشأن سجل حقوق الإنسان في الصين، كان لزامًا على الدوائر الموالية للحكومة ووسائل الإعلام الرئيسة في تركيا أن تُفسّر زيارة فيدان من خلال لفتاتٍ مجازية وإشاراتٍ خفية. ما قاله هاكان فيدان بالفعل للجانب الصيني تمَّ تفسيره من خلال ملابسه وليس من خلال كلماته. هل لاحظَ أحدٌ، على سبيل المثال، أنَّ ربطة العنق التي ارتداها فيدان خلال رحلته إلى شينجيانغ كانت “زرقاء تركستان الشرقية”؟ وكان آخرون سعداء للغاية برؤية مسؤول تركي في مسجد يانغهانغ والبازار الدولي الكبير في أورومتشي، لدرجة أنهم أعادوا نشر “مزيج” من مقاطع الفيديو الخاصة به من شينجيانغ مع موسيقى تصويرية للأغاني التقليدية في آسيا الوسطى. عنوان فرعي آخر للصياغة الضمنية لفيدان جاء من أحد أعضاء وفده، الذي أكد بدون الكشف عن هويته على موقف الوزير الحازم بشأن قضية الأويغور أثناء وجوده في الصين. وبطبيعة الحال، حافظ الجانب الصيني على قصة مختلفة تمامًا.
بالنسبة إلى بكين، كانت زيارة فيدان مهمة لإظهار الموقف المتبادل بين البلدين بشأن قضية غزة –ضد موقف إسرائيل والولايات المتحدة. وقد سلطت وسائل الإعلام الصينية الضوء على هوية تركيا “المسلمة” و”الشرق أوسطية” للتأكيد على أهمية ديبلوماسية بكين الإقليمية. وعلى نحوٍ مُماثل، أظهرت الأخبار التي روَّجت لخطط السلام الصينية في أوكرانيا العلم التركي في خلفيتها. ونقلت إحدى الصحف الصينية عن كبير الديبلوماسيين الأتراك إشادة ب”المرافق الحضرية المتطورة والازدهار الاجتماعي والحماية الجيدة لمختلف الثقافات واللغات العرقية” في شينجيانغ، كما غطت قناة تلفزيون الصين المركزي تصريحاته بشأن التزام أنقرة القوي بسلامة أراضي الصين وسياسة “صين واحدة”. ربما تكون إشارات فيدان الدقيقة إلى أوراق الاعتماد التركية والإسلامية لشينجيانغ قد ضاعت في الترجمة بالنسبة إلى الصينيين.
وما إذا كانت زيارة هاكان فيدان للصين ستؤدي إلى دفء العلاقات الصينية-التركية فهي مسألة مستقبلية. لكن القصة الطويلة للعلاقات الثنائية لا تحتوي على الكثير من التقلبات. تعود الطبيعة غير المتكافئة لتجارتهما إلى عقدين من الزمن على الأقل. وليس هناك أيُّ جديد أيضًا في ما يتعلق بحديث المسؤولين الأتراك عن تعزيز الصادرات إلى الصين، على أمل أن تتمكن المنتجات الزراعية التركية وحدها من القيام بالمهمة، على الرغم من أن العجز التجاري الحالي يصل إلى 40 مليار دولار. وعلى نحوٍ مماثل، كانت مبادرة الممر الأوسط مطروحة على طاولة المفاوضات الصينية-التركية على الأقل منذ العام 2015. وبالتالي، فإن العلامة الأكثر تحديدًا ــوربما الأقل دقةــ لهذه العلاقة هي حاجة تركيا إلى إيجاد نفوذ اقتصادي أو جيوسياسي لتحقيق بعض مظاهر المساواة مع الصين. هذه هي الطريقة الوحيدة لإزالة الترجمة من الحوار المكتوم بين تركيا والصين بشأن شينجيانغ والعديد من القضايا الشائكة الأخرى.
- الدكتور كاغداش أونغور هو أستاذ في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة مرمرة في إسطنبول، وهو أيضًا باحث غير مقيم في برنامج الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.