العِراقِيُّ الغامِض
قراءةٌ مُتأخِّرة في عَقلِ صدام حسين
(5)
المُرتاب!
سليمان الفرزلي*
نَزِلَ الكثير من آراءِ خير الله طلفاح من مكانه، بعد أن دارت الأيام بالفتى اليانع صدّام حسين الدوران المُتَعجّل، فاهتدى إلى “حزب البعث العربي الإشتراكي” وعقيدته، وتفتّحَ ذهنه على فهم العروبة على غير ما كانَ خاله ومُرَبّيه يلهجُ بها، وقد استغلقَ عليه الفهم الصحيح لأشيائها ومراميها.
كانت أفكارُ “البعث” تندفعُ إلى عينيه وتدخل عقله فتستحوذُ عليه وتُنظّمُ تفكيره لطَلَبِ الأفضل. وكان كُلّما تَوَغَّلَ فيها خطوةً، ابتعدَ خطواتٍ عن ماضي أيامه وسنوات عمره التي امضاها في كفن خاله، وبيئته، وأفكاره المُلتوية والمُشَوَّهة.
في تلك المرحلة الحَرِجة من صباه، أخذ صدام حسين يُعاني من نزاعٍ نفساني داخلي بين صدّام العقائدي المُتنوِّر، الثائر، المُهَذَّب، الطماح، الذي يملك هوادة الأناة… وبين صدّامٍ آخر يضجُّ في داخله يلحُّ على الظهور:عشائري، فطري، متهوّر، إنفعالي، سلطوي، العنفُ وسيلته إلى مبتغاه. إرضاؤهُ صعبٌ وإغضابهُ سَهل.
هذا التلوّن في شخصية صدام حسين، الذي عانى منه حتى مماته المأسَوي, كانَ يدلُّ على إنسانٍ غير مُستَقر، شكّاك، لا يتحمّل الاصطبار، مُرتاب بأقوال وأفعال، الأقربين والأبعدين، مَن حالفه منهم ومَن عاداه.
وليس أدلّ على عقلية الحذر النابعة من الارتياب الشامل عند صدّام حسين من الوثائق المنشورة حول أحاديث جرت بين طارق عزيز وكبير المفتّشين الدوليين عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، السويدي رولف إيكيوس.
فعندما قدَّم المسؤول العراقي للمفتش السويدي، من أجل ختم التحقيق، عرضًا ماليًا يقضي بفتح حساب له في سويسرا بمبلغ نصف مليون دولار، رفض إيكيوس العرض بقوله لطارق عزيز: “ما هكذا تجري الأمور في بلادنا”.
ثم واجهه المفتش السويدي بوجودِ وحدةٍ مخبرية بيولوجية غير مصرَّح عنها من قبل السلطات العراقية، فقال طارق عزيز لفريق التفتيش: “تعرفون كما أنا أعرف، أن كلَّ دولة في العالم لديها قسمٌ في جهاز أمن الدولة مهمّته فحص الطعام المُقَدَّم للقيادة”!
حتى الذين اختارهم بنفسه من الطبّاخين، ومساعديهم، في المطابخ الرئاسية، لم يكن يأمنُ لهم، ولم يكن ينام في المكان نفسه ليلتين، وما كان له روتين ثابت يُمكنُ رصده من قبل أعدائه أو خصومه.
بلغَ ارتيابُ صدام حسين درجةً من “البارانويا”، فباتَ يرى، في كلِّ شيءٍ وكلِّ شخصٍ، شبحًا يتربَّصُ به، بمن فيهم أقاربه وأفراد عائلته وعشيرته.
****
حادثتان وقعتا، وكان صدام حسين في ميعة الشباب، فتحتا أمامه مشاهد من التآمر والتخابث في المواقف والقرارات في العمل الحزبي، ورسّختا فيه نزعةَ التبرُّم من الرفاق، وزادت من حدّة شكوكه وارتيابه منهم.
الأولى وقعت في “تكريت” سنة 1958، والثانية في بغداد سنة 1959.
ذات يوم، ارتَجَّت “تكريت” على خبر اغتيالِ واحدٍ من رجال السلطة، وكانت الثورة قامت، والملكية أُطِيحت، وعبد الكريم قاسم, القابض على أعنّة الحكمِ أنشأ “المحكمة العسكرية العليا”، التي كانت أوصال العراقيين ترتَعِدُ عند ذكر إسم رئيسها العقيد فاضل عباس المهداوي.
وحدثَ أن وشى أحدهم على صدّام بأنه ضالعٌ في عملية الاغتيال، فأُلقِيَ القبضُ عليه، حوكم، وأُودِعَ السجن، فانضمَّ إلى قافلةٍ من المعتقلين البعثيين.
في الزنزانة، تسنّى لصدّام حسين أن يقرأ ما تَيَسَّرَ له من أدبيات الحزب، وأن يستمعَ إلى شروحات مَن سبقوه إلى العقيدة والحزب، وكان بعضهم يطلُّ من ثقافةٍ واسعة وفهمٍ عميق. فازدادَ وعيًا، وفهمًا، وحفظًا، وتوقًا للتعرّفِ على مؤسّس وواضع عقيدة الحزب ميشال عفلق.
لم يَمضِ وقتٌ كثير على خروجه مع رفقائه من السجن حتى أرسلت القيادة القطرية تطلبه… فامتثلَ، وتركَ “تكريت” إلى بغداد التي لم يكن زارها من قبل.
في اجتماعٍ اقتصرَ على عددٍ محدودٍ من الحزبيين، أُبلِغَ صدّام حسين أنه سيكون في عداد الذين اختيروا للقيام بعملية اغتيال عبد الكريم قاسم، خلال مروره في “شارع الرشيد” مُنتقلًا من منزله إلى مقره الرسمي في وزارة الدفاع.
وتحضيرًا للعملية خضع الشاب الآتي من “تكريت” إلى تدريبٍ مُكثّفٍ على استعمالِ الأسلحة الرشاشة، والتعرّف على بغداد وشوارعها.
قضت الخطة التي وضعها فؤاد الركابي، أول أمين قطري للحزب في العراق، تشكيل ثلاث فرق: فرقةٌ مُتقدِّمة لتنفيذِ الاغتيال، وفرقة احتياطية للمساندة، وفرقة للحماية، كُلِّفَ بها الشاب صدام حسين.
في مساء السابع من تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1959 وقبل ساعات من تنفيذ العملية، جاءَ مَن أسَرَّ لصدام حسين، بأنَّ فؤاد الركابي وضع خطة الاغتيال بالاتفاق مع الأجهزة الناصرية في دمشق، ولم يُطلِع عليها القيادة القومية، المُمَثَّلة آنذاك بأمينها العام ميشال عفلق، فهاله الأمر، والكلام بلغ مبلغه في إثارته، فتحرّكَ ارتيابه في داخله، وقرّرَ أن يحبط الخطة، فأدار فوهة رشاشه على رفقائه، وأطلق العيارات النارية، مما استعجل فريق الاغتيال، فأصيب قاسم بجروح لكنه نجا بحياته. وعندما أطلق صدام حسين النار في الاتجاه المعاكس، قام فريق المساندة بالرد على مصدر تلك النيران، فأُصيب بساقه، بنارٍ “صديقة”، كما يُقال باللغة العسكرية.
كان صدام وقتها في الثانية والعشرين من سنيّه.
*****
في سنة 1964 حقّقَ صدام حسين رغبته في لقاء ميشال عفلق في بيروت.
وقتذاك، كان عبد السلام عارف يوطّدُ حكمه بعد انقلابه على شركائه البعثيين الذين عاونوه على إسقاط حكم عبد الكريم قاسم بمؤازرة أجهزة جمال عبد الناصر في مصر.
جلس صدام حسين إلى الحديث مع “الأستاذ”، يرهف السمع، يحاول أن يستوعب الآراء والأفكار فهمًا وحفظًا.
وحدث أن توثّقت العُرى بينهما، فصار صدام المُدافع الأول عن ميشال عفلق في المؤتمرات الحزبية، وصار عفلق مصدر الدعم الحزبي الأقوى لنشاط صدام حسين وشرعيته. وقد وصف هذه العلاقة الصميمة بينهما القيادي البعثي السابق جبران مجدلاني بقوله: “كان صدام حسين يخاطب ميشال عفلق كما يخاطب طالب المدرسة أستاذه”.
من جهته، ردَّ ميشال عفلق لصدام حسين التحيَّة بأحسن منها، فقال فيه: “صدام حسين هو هدية البعث الى العراق، وهدية العراق إلى الأمة العربية”.
لكن صدام المُرتاب بكلِّ شيء، أبقى في خلفية حسابه العشائري إمكانية أن يرفع عنه ميشال عفلق غطاء “الشرعية الحزبية”، أو أن ينقلب عليه في ظروف متغيّرة، فظلَّ يداريه ويحاذره، حتى اضطر عفلق مغادرة بيروت بسبب الحرب اللبنانية ليقيم في بغداد بصورة دائمة، فكرَّمه صدام تكريمًا استثنائيًا، وأنزله وعائلته في “قصر الرشيد”، حيث كانت زيارتي الأخيرة له في السابع من نيسان (ابريل) سنة 1975، (يوم الذكرى الثامنة والعشرين لتأسيس “حزب البعث”)، فكان كأنه “عصفورٌ في قفصٍ من ذهب”!
لذلك، وضع صدام حسين ختم الشرعية الحزبية في جيبه، بحيث لم يعترض أحد من داخل الحزب، بمَن فيهم عفلق، على مجزرة “قاعة الخلد”التي تمَّ فيها إعدام عدد من القيادات الحزبية، بعد أيام قليلة فقط من انقلابه على رئاسة أحمد حسن البكر، والحلول محله في قيادة الحزب والدولة صيف العام 1979.
****
لم تكن محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد وحدها التي جعلت صدام حسين يكشف أعراض الغموض والتناقض داخل كوادر الحزب، فازداد ريبةً بمَن حوله، و ثقةً بنفسه في الوقت ذاته.
وليس أدلّ على ما نقول من مسألة تشكيل القيادة الحزبية في العراق بعد انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين.
يروي بعض قدامى البعثيين العراقيين الذين رافقوا تلك المرحلة، أن القيادة القومية للحزب بشخص أمينها العام ميشال عفلق شكَّلت نخبة قيادية للحزب في بغداد لم يكن أحمد حسن البكر في عدادها، فاعترضَ صدام حسين على ذلك، وطلب إيضاحًا للموضوع بصفته مُتقدِّمًا في القيادة القطرية حسب تلك اللائحة. وروى هؤلاء أيضًا إن ميشال عفلق أجابه: “إن السبب هو تنازل البكر عن رئاسة الحكومة الأولى بعد الانقلاب على قاسم، مما سهَّل على عارف إبعاد “حزب البعث” عن السلطة جملةً وتفصيلا”.
فردَّ عليه صدام حسين شارحاً أنه باستقالته من رئاسة الحكومة، ساعد البكر الحزب من حيث منع عبد السلام عارف من التنكيل بالبعثيين وملاحقتهم…
فما كان من ميشال عفلق أن عاد وأضاف اسم البكر إلى اللائحة القيادية.
الملفت في هذه الرواية، إذا صحَّت، أن صدام واجه الحالة ذاتها عندما انقلب هو في صيف 1979 على أحمد حسن البكر وفريق كبير من القيادات الحزبية في ذلك الوقت. إذ باستقالة البكر من الرئاسة والقيادة لصالح صدام حسين، لم يعد هناك من يحمي الحزب، حسب ما وصفه أثناء تشكيل القيادة السابقة في العام 1959، فأجاز لنفسه أن يُصفي مجموعة كاملة من القياديين الحزبيين تصفية جسدية، خلال اجتماع القيادات الحزبية في “قاعة الخلد” المشهورة.
ولهذا الموضوع قراءة مختلفة عمّا شاعَ وأُعلن في وسائل الإعلام، وهو أيضًا يتعلق بمطالعة لميشال عفلق، لم يترك له صدام حسين أي مجال للنطق بها، كما سيجري عرضها لاحقًا.
(حلقة الأربعاء المقبل بعنوان “الماكر”)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.