… لأَنهم اختاروا الأَسماء المغلوطة
هنري زغيب*
قالها غبطة البطريرك الكاردينال بشارة بطرس الراعي السبت الماضي في مؤْتمر “التجدُّد للوطن” ذي شعار “من لبنان الساحة إِلى لبنان الوطن”..
قالها السيد البطريرك بحروف من حقيقة كان لا بدَّ من إِطلاقها صحوةً على الضمائر..
قالها وسمعتُ في كلماته صوتَ السيِّد الذي “صنَعَ سُوطًا من حبالٍ وطردَ الجميع من الهيكل (يوحنا 2:15).. ويستطرد مُؤَرخُه متَّى “دخَلَ يسوع الهيكل … وقَلَبَ موائدَ الصيارفة” (21:12)..
قالها وتَردَّدَ قولُهُ في المخْلصين الذين أَزهقَهم صلَفُ تجار الهيكل اللبناني فأَشاحوا عن الوطن وهَجُّوا: منهم مَن هَجَروا إِلى أَوطان الآخرين، ومنهم مَن اعتكفوا داخل الوطن رافضين بشاعة الكرنفال..
ولعلَّ عبارة السيِّد البطريرك “الأَسماء المغلوطة” تختصر الكثير مما يقال في مَن انخرعوا أَو انخدعوا، فأَسقَطوا أَسماء في صندوقة الاقتراع، وسبَّبُوا عودة سياسيين فرِّيسيين أَسقطوا الدولة إِلى حيث باتت اليوم مسخرة الدوَل..
كما تكونون يولَّى عليكم؟ مش صحيح.. أَبدًا مش صحيح.. الذين انخرعوا وانخدعوا لا يشكِّلون سوى نصف الشعب، والنصف الآخر رفَضَ المشاركة في المهزلة المقْرفة ولم يتوجَّه إِلى صندوقة الاقتراع، إِما لرفْضه كلَّ هذا الطقْم المرشَّح العفِن، وإِما رفضًا قانونَ انتخابٍ مسْخًا فصَّله السماسرة العاهرون على قياسهم، كي يأْتي بهم دون سواهم إِلى الحُكْم فالتحَكُّم بمصيرٍ هشَّمَ مفهومَ الأُمَّة الحضاريّة اللبنانيّة الذي نسَجَه الآباء المؤَسسونَ الدستورَ، وجعلوا في المادة 50 منه نصَّ القَسَم الذي يُعلنُه الرئيس المنتخَب: “أَحلِفُ بالله العظيم أَني أَحترم دستورَ الأُمَّة اللبنانية وقوانينَها وأَحفظُ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أَراضيه”..
صديقٌ لي قرأَ مقالًا سابقًا أُشيدُ فيه كعادتي بلبنان الوطن وأَرفض السُلطة، كتب إِليَّ متشائمًا: “أَين هو لبنان الوطن؟ أَلَيس صورةً يحملها معه اللبناني المهاجر ويعود إليها كلما حَنَّ إِلى وطن لم يَرَ النور على أَرض الواقع بل هو ساكن فقط في خياله”؟..
لا يا صديقي: الذي تقصدُه أَنتَ هو لبنان السُلطة التي جمَّدتْها ثَعلبَةُ سياسيين تناتشوا الحكْم فدمَّروا هيبة الدولة.. لبنان الوطن ليس وهمًا في خيال، بل واقعٌ تاريخي وحقيقة إِبداعية خالدة ما زالت ساطعة في تاريخنا القديم والحديث.. هو لبنان الحضارة والسياحة والآثار والطبيعة والأَعلام الخالدين وكلُّ ما في لبنان من ثوابت تاريخيّة لا تتغيَّر مع تعاقُب الحكومات والبرلمانات والسياسات الصغيرة الآنيَّة العابرة.. والذي “لم يَرَ النور على أَرض الواقع” هو لبنان الدولة المشلولة والسُلطة الكَشْكُولة لا لبنان الوطن الخالد.. دَعْكَ من الحكَّام المرذولين، والْتفِتْ إِلى لبنان الصغير مساحةً والعملاق حضارةً وَضَوْعًا كزجاجة العطر تختصر فيها أَطيب الخُلاصات.. لبنان الوطن أَوسعُ من جغرافياه وأَقوى من ديموغرافياه.. ولن نَستعيدَه إِلَّا يومَ شعبُهُ يَطرد من حكْمه جميعَ الفريسيِّين والخوَنَة ويَنتخبُ جيلًا جديدًا من السياسيين الأَنقياء والأَوفياء وما أَكثرَهم في لبنان ولدى الـمَهَاجر اللبنانية في كلِّ العالَم..
المهم أَلّا نيأَس.. وأَن نبقى نناضل بتَوعيةِ شعبنا حتى تَسقُط من بيننا طبقةُ سياسيين فاسدين يأْتي بهم ويعيدُ انتخابَهم مستزلمون ومستسلمون وأَزلام ومحاسيب وأَغبياء عميانيون أَغناميون موهومون بـسياسييهم العقيمين..
حلم بعيد؟ لكنه يقترب تدريجيًّا بإِرادة الأَنقياء حين يُشيحون عن انتخاب… “الأَسماء المغلوطة”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).