“حماس” أعادت اختراعَ الحربِ السرّية
أدّى استخدامُ “حماس” المُبتَكَر لباطن الأرض إلى إعادة تعريف القيمة الاستراتيجية لسطح الأرض، وتغيير المواجهات العسكرية، وتحويل استخدام الدروع البشرية. ولا شك أن ذلك سيُلهم آخرين.
دافني ريتشموند-باراك*
عندما هاجمت حركة “حماس” إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، جَرَّت إسرائيل إلى واحدةٍ من أسوَإِ الحروبِ السرِّيةِ والجوفية على الإطلاق. والآن، أصبحَ من الواضحِ تمامًا أنَّ حَجمَ مجمع أنفاق “حماس” تحت الأرض لم يسبق له مثيل، وأنَّ استخدامَ هذه الأنفاق قد ساهم في سقوط ضحايا بين المدنيين والجنود الإسرائيليين. والأكثر أهمية من ذلك هو أنَّ “حماس”، من خلال استمرارها في العمليات السرّية على مدى أشهرٍ عدة، تسبّبت في تأخيرِ نصرٍ إسرائيلي، الأمر الذي أدّى إلى تكاليف ديبلوماسية وسياسية للدولة العبرية لا يُمكن تصوّرها.
وفي ما يتعلق بحرب الأنفاق، فإنَّ الحربَ الوحيدة التي يُمكِنُ مقارنتها معها هي الحرب العالمية الأولى، التي لقي فيها عددٌ لا يُحصى من الجنود البريطانيين والألمان حتفهم أثناء محاولتهم كشف الأنفاق وتلغيمها وحفرها. لا يُوجَدُ أيُّ استخدامٍ آخر للأنفاقِ في الحرب يقترب من إستخدام “حماس” لها – لا ترسيخ أسامة بن لادن في جبال أفغانستان الذي مكّنه من التهرّب من القوات الأميركية والتخطيط لهجماتٍ بدون أن يتم اكتشافه؛ ولا تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” في مالي، حيث استخدمَ الأنفاق في شنِّ هجماتٍ من مخابئ تحت الأرض منيعة تقريبًا؛ ولا تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضًا ب”داعش”)، الذي استخدمَ الأنفاق لشنِّ هجماتٍ على القوات المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة في العراق وسوريا. إنَّ استخدامَ “حماس” للأنفاقِ مُتَقدّمٌ للغاية لدرجةٍ أنه يشبه إلى حدٍّ كبير الطريقة التي تستخدم بها الدول الهياكل تحت الأرض لحماية مراكز القيادة والسيطرة أكثر مما هو مُعتاد بالنسبة إلى الجهات الفاعلة غير الحكومية.
وقد أدّى تعزيزُ “حماس” لقدراتها تحت الأرض إلى زعزعة تقييم إسرائيل للتهديدات الجوفية. لم تتخيَّل إسرائيل قط أن تتورّطَ في حربٍ سرّية تحت الأرض بهذا الحجم. وإذا كان هناك أي شيء، فهو أنَّ إسرائيل كانت تُركّزُ على إزالة أنفاق “حماس” التي تَعبُرُ إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. من المرجح أن تُحفّزَ الحربُ في قطاع غزة تطويرَ عقيدةٍ جديدة وأساليب جديدة للتعامل مع هذا النوع الفريد من الحرب. لا شكّ أنَّ نظامَ الأنفاق التابع ل”حماس” قد لفت انتباه الجيوش الأخرى والجهات الفاعلة غير الحكومية، وجميعها تشير إلى مدى فعاليته في بقاء وصمود “حماس” في غزة.
والآن بعد أن تغلّبت “حماس” على معظم العقبات المتأصّلة في الحرب تحت الأرض ــ الاتصالات، والملاحة، وانخفاض مستويات الأوكسيجين، ورهاب الأماكن المغلقة، من بين أمور أخرى ــ هناكَ كلُّ الأسباب التي تجعلنا نعتقد أنَّ هذا التكتيك سوف يستمرُّ في الانتشار. لقد أدّى استخدامُ “حماس” المُبتَكَر لباطن الأرض إلى إعادة تعريف القيمة الاستراتيجية لسطح الأرض، وتغيير المواجهات العسكرية، وتحويل استخدام الدروع البشرية.
صعبةُ المنال
إنَّ البقاءَ تحت الأرض لفتراتٍ طويلة ليس بالأمر الهَيِّن والسهل، كما أفاد مئات المقاتلين الأوكرانيين الذين عاشوا في الأنفاق أسفل مصنع آزوفستال للصلب خلال الهجوم الروسي على ماريوبول في العام 2022. لقد نفد الطعام ومياه الشرب لدى تلك القوات بسرعة. وكانوا يفتقرون إلى أبسط الترتيبات الصحية والطبية، ناهيك عن الاتصال بالإنترنت والقدرة على الحفاظ على التواصل مع العالم الخارجي. في غزة، لم يُشَكّل أيٌّ من هذه الأشياء مشكلة بالنسبة إلى “حماس”. ولم يتمكن الأشخاص الذين يعيشون ويقاتلون في أنفاق أزوفستال من البقاء على قيد الحياة لأكثر من شهرين تحت الأرض، إلّا أنَّ “حماس” حافظت على وجودٍ عسكري تحت الأرض لمدة تقرب من ثمانية أشهر. وتُدينُ “حماس” بهذا الأداء الذي حطّمَ الأرقام القياسية إلى متاهةٍ طويلة من الممرّات تحت الأرض التي تمتد عبر غزة والتي تشمل مطابخ مُجَهّزة بالكامل، وغرف قيادة مفروشة، ومراكز بيانات متطوّرة، وحمّامات مُبَلَّطة، وزنزانات احتجاز مُسَيَّجة، ومناطق عمل مُخَصّصة.
ويبدو أنَّ “حماس” غير مُقَيَّدة بقيودٍ جيولوجية، أو صعوباتٍ هندسية وتخطيطية، أو الخوف من القدرة على البقاء على قيد الحياة. كان لدى المجموعة مُتّسَعٌ من الوقت لصقل مهاراتها وتجريبها وتحسينها. ومن المؤكد أنَّ عقودًا من الحفر على الحدود المصرية، وداخل غزة، وداخل الأراضي الإسرائيلية قد ساعدت. يبلغُ عَرضُ النفق الذي تم اكتشافه بالقرب من المعبر الحدودي بين غزة وإسرائيل، المعروف باسم معبر “إيريز”، حوالي 3 أمتار وعمقه 50 مترًا. وقد تم حفره باستخدام معدّات حفر مدنية بسيطة، وهو الأول بالنسبة إلى “حماس”.
مع ذلك، حتى أفضل مهارات الحفر لا تُعِدُّ المقاتلين للصمود والبقاء لفترات طويلة تحت الأرض. الظروفُ قاسية والأوكسجين نادر والتواصل مع العالم الخارجي محدود. وقد أظهرت “حماس” أنَّ سنواتٍ من التدريب والتخطيط الدقيق يُمكِنُ أن تساعد على التغلّبِ على هذه العقبات. وتشمل أنفاقُ “حماس” أماكن للنوم، وقاعات اجتماعات، ومباني أخرى تحت الأرض، مُجَهَّزة كلها بالتهوية والكهرباء والمراحيض والحمامات والسباكة وشبكات اتصالات بدائية لكنها فعّالة. ومع تحسّنِ البنية التحتية، تضاءلت سلبيات العيش والعمل تحت الأرض. أتاحت المخزونات الهائلة من الوقود والغذاء والمياه داخل الأنفاق العيش والقيام بعملياتٍ عسكرية تحت الأرض. كما ضمنت مرافق إنتاج الأسلحة الواسعة تحت الأرض استمرار إمدادات الأسلحة وتوزيعها من دون انقطاع.
من المعروف أنَّ مستخدمي الأنفاق في كلِّ مكان يخرجون من الأنفاق للتزوّد بالتخزين، واستنشاق الهواء النقي، والتواصل مع العالم الخارجي، ولكن قيادة “حماس” بالكاد تُرى فوق الأرض. في نيسان (أبريل)، ظهرت تقارير تُفيدُ بأنَّ زعيم “حماس” في غزة، يحيى السنوار، زار قواته فوق الأرض، ولكن لفترةٍ وجيزة فقط. وليس من الواضح عدد المرات التي خرج فيها مقاتلو “حماس” من الأنفاق لإعادة الإمداد أو التعافي. لكن الأمر الواضح هو أنَّ “حماس” تمكّنت من توجيه العمليات العسكرية بدون انقطاع. وعلى الرُغم من تعرّضها للضربات –خصوصًا عندما تُعطّل الضربات الإسرائيلية أنظمة اتصالاتها- فقد تمكّنت بشكلٍ عام من ضمان استمرار التسلسل القيادي من قاعدتها العسكرية تحت الأرض.
إنَّ استخدامَ “حماس” للهياكل السرّية يُشبهُ إلى حدٍّ كبير الطريقة التي تستخدم بها الدول تقليديًا، وليس الجهات الفاعلة غير الحكومية، الهياكل تحت الأرض. تعتمد الدول على هياكل تحت الأرض لإيواء مخابئ دائمة يصعب الوصول إليها قادرة على العمل كمراكز للقيادة والسيطرة في أوقات الأزمات. ومن الممكن أن تستضيف هذه المرافق المدفونة عميقًا القادة، وتدعم البنية التحتية لإنتاج الأسلحة، وتضمن استمرار التسلسل القيادي في حالات الطوارئ. ومن المعروف أن كندا والصين وإيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة تمتلك هذه الأنواع من المرافق المدفونة بعمق. وهي أكبر حجمًا وأفضل تجهيزًا وأكثر تحصينًا وأعمق من الأنفاق. فالمنشآت النووية الإيرانية محفورة على عمق يزيد على مئة متر تحت الأرض (في حين لا يصل عمق أغلب الأنفاق إلى أكثر من 60 مترًا)، ونتيجة لهذا فهي بعيدة من متناول حتى أقوى الأسلحة.
وعلى النقيض من ذلك، استخدمت الجماعات الإرهابية الأنفاق في الأساس لحماية نفسها من تكنولوجيا المراقبة والعمل من دون أن يتمَّ اكتشافها. وتستخدم هذه الأنفاق البدائية للاختباء وتنفيذ هجمات مفاجئة. لكن في غزة، فإنَّ العديدَ من الأنفاق التي كشفها الجيش الإسرائيلي تشبه تلك الهياكل الموجودة تحت الأرض في إيران وكوريا الشمالية من حيث حجمها وعمقها وطريقة بنائها. لقد أصبح سقفها المقوَّس الإسمنتي سمةً مُميَّزة، حيث تمَّ استخدام الأسمنت أيضًا لبناء ممرات أنفاق أكبر. ومقارنة بأنفاق “حماس” السابقة، تلك التي حفرتها في مصر وغزة في أواخر التسعينيات الفائتة وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد تحسّنت الهندسة بشكلٍ كبير. أصبحت الأنفاق الآن أقل عرضة للانهيار، ومُضاءة جيدًا، وأكثر ملاءمة للعيش.
كما زادت “حماس” أيضًا من اعتمادها على الأنفاق كجُزءٍ من استراتيجيتها، وتحديدًا كيفية استخدامها للأنفاق. فهي ترى أن حرب الأنفاق هي استثمارٌ استراتيجي طويل الأجل مُصَمَّمٌ لضمان بقاء سلسلة قيادتها في الحرب، وليس مجرد تكتيكٍ لمواجهة قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الإسرائيلية. ولا تستطيع الجيوش محاربة الأنفاق التكتيكية بينما تحارب التهديدات الاستراتيجية الجوفية. فالقنابل الخارقة للتحصينات، على سبيل المثال، لن تكون كافية لتدمير مثل هذه الهياكل الأعمق والأكثر قوة. ويعكس التحوّل نحو الاستخدام الأكثر استراتيجية للأنفاق التركيز على القدرة على البقاء والصمود بدلًا من القتال تحت الأرض.
انتظر الخُلْدَ
لقد شكّلت الأنفاق العمليات في غزة بطُرُقٍ لا حَصرَ لها، ما أدّى إلى تقويضِ احتمالاتِ تحقيقِ نصرٍ إسرائيلي سريع، وإبطاءِ وتيرة العمليات، وجَعلِ إنقاذِ الرهائن أكثر صعوبة، وتَعقيدِ البيئات العسكرية والسياسية لإسرائيل. ولكن هناكَ جانبٌ واحدٌ غالبًا ما يتمُّ التغاضي عنه، وهو أمرٌ يحمُلُ عواقب وخيمة على حروب المستقبل: ألا وهو أنَّ استراتيجية “حماس” التي تعمل تحت الأرض أدّت إلى تقليصِ أهمّية سطح الأرض.
لقد وصف الصحافي الإسرائيلي رون بن يشاي هذا النوع الجديد من القتال على نحوٍ مُناسِب بأنه “حربٌ تُشَنُّ على مستويين مختلفين”. في المراحل الأولى من الحرب، سعى الجيش الإسرائيلي إلى السيطرة على سطح الأرض لكشف أنفاق “حماس” والدخول إليها في نهاية المطاف. ولكن مع تقدّمِ عمله، تحوّلَ الاهتمامُ إلى الممرّات من وإلى تحت سطح الأرض. وأصبح السطح مجرد قناة للوصول إلى الأنفاق والهياكل تحت الأرض، ولم يعد محور القتال.
نتيجةً لذلك تغيّرت مواجهات العدو والمناورات البرية. من المعروف أنَّ الحربَ السرية تحت الأرض تجعل العدو غير مرئي وبعيد المنال. يتمُّ وصفها بشكلٍ مناسب وشائع بأنها لعبة “أضرب الخُلْد”، حيث يخرج العدو من الأرض في منافسة لا نهاية لها من نوع “الغمّيضة”. أما في غزة، فقد اختفى العدو بشكل شبه كامل، وتم ابتلاعه في مجمعه الضخم تحت الأرض. إضرب الخُلْدَ صار بمثابة انتظر الخُلْدَ. وبما أن الانتظار لم يسفر عن أيِّ نتائج، فقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى استخدام كل أنواع الذرائع لإخراج مقاتلي حماس من تحت الأرض.
وهذا لا يعني أن مقاتلي “حماس” لم يظهروا أبدًا. لقد أطلقوا صواريخ قاتلة مضادة للدبابات على القوات الإسرائيلية ونفّذوا أنواعًا أخرى من الكمائن. لكن الطريقة التي تعمل بها “حماس” تُظهِرُ أنَّ استخدامها للأنفاق لم يُعِد تعريف البيئة الجوفية فحسب، بل أعاد أيضاً تعريف قيمة وطبيعة القتال البري. المواجهات مع الجانب الآخر أقل تكرارًا، وكما هو الحال مع الأنفاق نفسها، يصعب اكتشافه. على سبيل المثال، تشير الأفخاخ المتفجّرة القريبة من ممرّات الأنفاق إلى وجود العدو، ولكن لا يوجد عدوٌ في الأفق، وعندما يتم اختراق الأنفاق أخيرًا، يكون العدو انتقلَ إلى جُزءٍ مختلف من شبكة الأنفاق. إن اكتشافَ الأنفاق الفارغة أسفل مستشفى الشفاء يوضِّحُ ذلك جيدًا. في هذه البيئة، لا تحدث اللقاءات بشكلٍ طبيعي: بل يجب أن تكون مُنَسَّقة.
إذا كانت الحرب الجوفية حلّت محلَّ الحرب البرية في غزة، فمن الممكن أن تَحدُثَ في مكانٍ آخر. يجب على الجيوش أن تُفكّرَ في كيفية التعامل مع الدور المتضائل لسطح الأرض عندما يتحوّل العدو من الاستخدام التكتيكي إلى الاستخدام الاستراتيجي لتحت الأرض. سيظلُّ السطحُ ذا صلةٍ بالحرب -على الأقل- من حيث السماح بالوصول إلى الهياكل الموجودة تحت الأرض والتحكُّم فيها وكموقع نهائي لمعظم اللقاءات. لكن هذه التطورات تشير إلى أنه من الأفضل أن يتمَّ تأطيرُ الحرب الجوفية كمجالٍ مُنفصلٍ للحرب وليس كمجرّدِ مجموعة فرعية من الحرب البرية.
حدود التكنولوجيا
أظهر القتال في غزة أيضًا أن التقدّمَ في تكنولوجيا مكافحة الأنفاق قد فشلَ في رَدعِ جماعات مثل “حماس” من اللجوء إلى حرب الأنفاق. يمكن القول إن إسرائيل تمتلك التكنولوجيا الأكثر تقدمًا في العالم لمكافحة الأنفاق. وتمَّ نشرُ تقنيات الكشف والتحييد المتقدّمة لمواجهة تهديد أنفاق “حزب الله” المتجهة إلى إسرائيل في العام 2018. كما قامت إسرائيل بتدريبِ وحداتٍ خاصة على حرب الأنفاق، وبنت مرافق تدريب تحت الأرض، وطوّرت أجهزة استشعار تحت الأرض لحماية حدودها، وأتقنت المهمة الصعبة المتمثّلة في رسم خرائط الأنفاق بواسطة استخدام طائرات مُسَيَّرة. بين عملية الجرف الصامد في العام 2014، آخر حرب شنّتها إسرائيل في غزة، وهجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (الأول)، قام الجيش الإسرائيلي بتحسين قدراته بشكلٍ كبير في الحرب الجوفية، مع التركيز على التدريب والمعدّات والكشف.
لكن التكنولوجيا الإسرائيلية المُتَفَوِّقة والتدريب المُتقدّم لم يُثنِ “حماس” عن استثمارِ قدرٍ كبير من الوقت والموارد البشرية في بناء الأنفاق. في الوقت نفسه، دَفَعَ التقدّمُ التكنولوجي إسرائيل إلى الاعتقاد بأنها سحقت أنشطة “حماس” السرية تحت الأرض، على الرُغم من أنَّ العكسَ كان صحيحًا. بعبارةٍ بسيطة: مع تحسّنِ التكنولوجيا، تكثّفت أعمال الحفر. لقد قللت إسرائيل من تقدير التداعيات الاستراتيجية لحرب الأنفاق -وهي تهديد منخفض التقنية- عندما استخدمت على نطاق واسع، وبالغت في تقدير قدرة التكنولوجيا على مواجهتها. لقد ركزت على الجوانب التكتيكية وعلى الأنفاق العابرة للحدود، تاركةً ل”حماس” الحرية في تطوير قدراتٍ تحت الأرض ذات أبعادٍ غير مسبوقة.
إنَّ فَهمَ هذه المفارقة هو درسٌ أساسي من هذه الحرب. ولا يمكن للتكنولوجيا والتفوّق العسكري أن يوقفا بمفردهما اتجاه الأنفاق. لقد فشلت التكنولوجيا في ردع التهديدات الجوفية ومواجهتها. وتُدركُ “حماس” تمام الإدراك أنه حتى التكنولوجيا الأكثر تطوّرًا المتاحة لن تكون كافية لمواجهة مثل هذه القدرات التي تتمتع بها تحت الأرض، وبالتالي لديها ثقة عميقة في هذا التكتيك. وكانت “حماس” تعلم أن شبكة الأنفاق الواسعة التي تمتلكها في غزة من شأنها أن تُبطئ الرد الإسرائيلي، وتُقلّل من الميزة التنافسية التي تتمتع بها إسرائيل، وتحمي كبار قادة “حماس” في غزة، وتتسبب في وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين. لقد أثمرت الحرب منخفضة التكنولوجيا في غزة، وهو نجاح من شأنه أن يعزز حرب الأنفاق في كل مكان.
الدروع البشرية 2.0
إنَّ استخدامَ “حماس” للإسرائيليين والمدنيين الأجانب كدروعٍ بشرية يُشَكّلُ ابتكارًا مهمًّا ومثيرًا للقلق في حرب غزة المستمرة. وكما هو معروف، فقد احتجزت “حماس” مئات الرهائن كجُزءٍ من هجومها الضخم على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وما زال العديد منهم محتجزين في غزة. يُشار إلى هؤلاء الأشخاص عادةً على أنهم رهائن، لكن الواقع أكثر تعقيدًا مما توحي به كلمة “رهينة”.
لقد ابتكرت “حماس”، أوّلًا، من خلال جلب المدنيين الأبرياء إلى داخل الأنفاق كدروع بشرية، وثانيًا، من خلال استخدام المدنيين من إسرائيل وغيرها من البلدان، بدلًا من المدنيين الفلسطينيين، كدروعٍ بشرية. في الحروب المعاصرة، يشير الدرع البشري إلى وضع المدنيين – عادة مدنيين منهم- داخل وحول الأهداف العسكرية بهدف تحصين هذه الأهداف من الهجوم. ومن المؤسف أن هذا التكتيك، المحظور بموجب القانون الدولي، قد ازدهر في سياق حرب المدن. لقد وجد العديد من الجماعات الإرهابية، بما في ذلك “حماس” بشكل عام وفي سياق الحرب الجوفية بشكل خاص، أنه من المفيد الاختباء خلف سكانها المدنيين: تقوم الجيوش الغربية بإلغاء الضربات عندما يصبح الضرر المتوقع إلحاقه بالمدنيين مفرطًا بما يتجاوز الميزة العسكرية المتوقعة. إن وضع المدنيين داخل الأنفاق كان له الأثر المقصود المتمثل في تعقيد جهود الإنقاذ، وتقييد العمليات العسكرية، وتحصين الأصول العسكرية الرئيسة ل”حماس”. يُعَدُّ استخدامُ الرهائن بمثابة عودة إلى تكتيك الحرب الكلاسيكي، ولكنه محظور، المتمثّل في استخدام أسرى الحرب لحماية القوات العسكرية. خلال الحرب الأهلية الأميركية، استخدم الجانبان الأسرى كدروع بشرية، واستخدم الألمان أسرى الحرب البريطانيين كدروعٍ بشرية خلال الحرب العالمية الثانية.
إن المدنيين الذين تمّ أسرهم واحتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي لدى “حماس” هم رهائن ودروع بشرية في الوقت نفسه. وهذا الابتكار في احتجاز الرهائن كان سببًا في تمكين “حماس” من تعظيم أهدافها السياسية والعسكرية إلى ما هو أبعد كثيرًا من هدفها المُعلَن المتمثّل في إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. لقد أدّى احتجازُ الرهائن إلى تمزيق المجتمع الإسرائيلي، ودفع الحكومة الإسرائيلية إلى ربط النصر بأهدافٍ بعيدة المنال وغير قابلة للتسوية. فقد منحت “حماس” السلطة على طاولة المفاوضات ودفعت حلفاء إسرائيل إلى المطالبة بتنازلاتٍ مقابل إطلاق سراح الرهائن. كما سهّلت الحرب النفسية القاسية التي تشنّها “حماس”. ويتعيّن على الجيوش أن تأخذ في الاعتبار هذه الاستخدامات المُبتَكرة للعمل تحت الأرض، والتي يمكن أن تضع الدول على حافة الشلل العملياتي والسياسي، حتى تتمكن من توقع كيفية استخدام التكتيكات الجوفية في حروب المستقبل من قبل خصومها.
- دافني ريتشموند – باراك هي أستاذة مساعدة في كلية لودر للحُكم والديبلوماسية والاستراتيجية في جامعة رايخمان، وهي تابعة لمعهد الحرب الحديثة ومعهد ليبر للقانون والحرب البرية في “ويست بوينت” في الولايات المتحدة. يمكن متابعتها عبر منصة (x) على: @RichemondBarak
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.