هذه الموناليزا… ما سرُّها التاريخي؟ (1 من 2)

اختصاصيو الصيانة في اللوفر

هنري زغيب*

يُجمع النقاد ومؤَرِّخو الفنون أَنها “أَشهر لوحة في تاريخ الفن وأَغلاها ثمنًا”. وكلْفة التأْمين عليها هي أَعلى كلفة لأَيِّ أَثر فني في العالم (100 مليون دولار سنة 1962، أَصبحت 650 مليون سنة 2018). مع ذلك لم تدخل يومًا في مزاد علني. ففي القانون الفرنسي مادة واضحة تمنع شراءَها أَو بيعها، فهي “ملْك الشعب الفرنسي ولا يمكن حتى نقْلُها من متحف اللوفر”.

وما زالت تتسع شهرتُها يومًا بعد يوم حيال تدفُّق الملايين كل عام لمشاهدتها، ولو عن مسافة، معلَّقةً في هَيبَةٍ على جدار اللوڤر.

وحدها محصَّنَة قبل دخول الزوار بالمئات

الأَسئلة الكثيرة

المتخصصون المدقِّقون يجدون فيها براعة ليوناردو داڤنتشي (1452-1519) في رسم الجسم البشري والواقعية الطبيعية. فما الذي يجعلها بهذه الأَهمية التاريخية وهذا الخلود المتنامي من عصر إلى عصر؟؟

ينقسم النقاد في تحليل ذلك. منهم من يُعيد شهرتها إِلى تفاعل المشاهدين معها، ومنهم من يرى شهرتها في لُغز ابتسامتها الـمُحيِّرة (رضى أَم حزن؟)، ومنهم مَن يعزو شهرتها إِلى حضورها في اللوڤر أَحد أَعظم المتاحف في العالم، وتاليًا إِلى صدور آلاف النُسخ الورقية منها، مطبوعةً في كتُب ومنشورات ومجلات، أَو هي موضع دراسة وتحليل وشروح في المؤَسسات الجامعية والثقافية والشعبية وسواها، أَو منشورة على آلاف المواقع الإِلكترونية مع أَبحاث عنها وتعليقات. ولعلَّها أَيضًا أَكثر لوحة في العالَم استقطبت حولها، على مرّ العقود، نقاشات وحلقات ومقالات وبرامج إذاعية وتلڤزيونية.

يلتقطون صورتها عن بُعد

الخصائص

ولكنْ.. ماذا في هذه الموناليزا من خصائص ليست في سواها؟

هي لوحة واقعية تعبيرية. وجه المرأَة فيها كأَنه منحوت بإِزميل ناطق أكثر مما هو بريشة رسام عبقري استخدم تقنية الــ”سْفُوماتو” (يحذق فيها الرسام بمزْج تَدَرُّج النور والظل وحتى بمزْج الأَلوان في ما بينها حتى ليبدو ما تحت البشَرة من ملامح، وهي تختلف كليَّا عن الطريقة الفلورنسية الْكانت متَّبعة عصرئذٍ).

ومن خصائص أُخرى في اللوحة:

– جذبت إِلى اللوڤر ملايين الزوار كي يرَوها عن كثب. يقفون في صفوف طويلة جدًّا قبل أَن يصل دورُهم للدخول إلى اللوڤر ورؤْيتها. مع أَنَّ في اللوڤر لوحاتٍ لا تقلُّ عنها روعة فنية خالدة، مثل “الليلة المقْمرة” لڤان غوخ، و”ولادة ڤينوس” لبوتيتشلي.

– انجذاب نابوليون بونابارت إِليها.

– اللغز الكامن وراء بسمة الموناليزا. لم يفسِّر أَحدٌ بعدُ حتى اليوم ما فيها من أَسرار عميقة ومؤَشِّرات خاصة ورموز مخفية. وهذه البسمة أَلهمت الكثيرين لاحقًا من كتَّاب ورسامين. ويرى العالِم النفساني سيغموند فرُوْيْد أَن هذه الـ”نصف ابتسامة” تعيد ليوناردو إِلى وجه أُمه. كما يرى رسامون مدقِّقون أَن في وجهها شبَهًا كثيرًا بوجه ليوناردو ذاته، لِما فيه من ملامحَ دقيقةٍ ذُكورية. ويُبعِد آخرون الظن فيرَون أَن ليوناردو رسم امرأَة من خياله، أَو امرأَة قريبة من ذوقه في الوجه الأُنثوي.

– أن تكون أول عمل  فني يوحي النظر إِليه بالأبعاد الثلاثة، مع أَنها موضوعة بين 1503 و1506.

– جفونها أثارت الكثير من الجدل في تقنية رسمها.

– هي اليوم أشهر لوحة في العالَم، خصوصًا بأَنها رمز ساطع في فنون عصر النهضة الإِيطالية.

– بعد عرضها سنة 1974 في متحف طوكيو الوطني اجتذبت إِليها نحو مليونّي زائر.

– القصة التي وراءَها: كان تاجر الحرير: الفلورنسي فرنشسكو دِل جيوكوندو، أَوصى ليوناردو ليرسم ليزا غيرارديني، زوجته الثالثة. لكن ليوناردو لم يسلِّمها وقتئذٍ لصاحبها، بل حملها معه حين غادر المدينة وانتقل إِلى بلاط فرنْسْوَى الأَول ملك فرنسا.

يتهافتون لالتقاط صورتها

كأَنها لوحة عادية

طبعًا، حين رسم ليوناردو هذه اللوحة، لم يتخيَّل أَبدًا أَن تلقى هذه الهالة التاريخية الخالدة، ولا أَن تنتقل إلى اللوڤر الفرنسي، أَحد أَهم المتاحف في العالم.

الزائر العادي يرى فيها لوحة عادية لامرأَة عادية جالسة على كرسي، على وجهها وشاح أَسْوَد سميك، وعلى شفتيها ابتسامة. في القرن التاسع عشر كان ليوناردو يُعتبر لا رسامًا مبدعًا وحسْب بل مخترعًا. ومع السنوات ازداد الإِعجاب بها وبقصتها.

في التداوُل أَن ليوناردو وضع أَكثر من نسخة لهذه اللوحة. إِحداها وُجدت في سويسرا، أَعادتها “مؤَسسة التكنولوجيا السويسرية الفدرالية” (في زوريخ) إِلى عصر ليوناردو. وهي بقيت مخبَّأَة في مصرف سويسري طيلة 40 سنة قبل أَن تظهر للعلَن سنة 2012. وفي السنة ذاتها ظهرَت لها نسخة أُخرى في مدريد لدى متحف پرادو الذي أَعلن أَنها من وضْع أَحد تلاميذ ليوناردو.

هذه الهالة الغريبة حول الموناليزا هي التي أدت إِلى اشتهاء سرقتها. ولكن…

كيف تمت السرقة؟ من هو السارق؟

مَن هو الرسام الذي انتحر بسببها؟ ولماذا؟

ما الذي جرى بعد ذلك؟

هذا ما أَعرضه في الجزء الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى