لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (43): البِيئةُ الشيعِيّة والصراعُ الثقافي
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
صوفي كوبر، مُؤرِّخة إيرلندية، صَرَفَت عُمرًا على دراسة “التاريخ الثقافي”. سارَ ذِكرُها كلَّ مسير، بعدَ صدورِ كتابها: “تشكيل الهويات في العالم الإيرلندي”، (الناشر جامعة أدنبره، اسكتلندا).
من خلالِ دراستها لأنماطِ الهجرةِ الإيرلندية، فترة الاحتلال البريطاني، (إلى أوستراليا والولايات المتحدة)، طَرَحَت صوفي كوبر، نظريةَ أنَّ الشعبَ الرازح تحتَ حُكمِ الاستعمار يكونُ بالضرورة مُشارِكًا في المشروعِ الاستعماري، فتتشكّلُ هَوِيَّتُهُ الثقافية من خلالِ الانصهارِ الحياتي والسياسي مع المُستَعمِر.
إنَّ بعضَ الدارسين، لهذه النظرية، دراسة مُقارنة، خلصَ إلى استنتاجٍ أنَّ الهجرةَ اللبنانية هي أقربُ التجارب للهجرة الإيرلندية، إن قي أنماطها أو دوافعها.
في مجالِ المُقارَنة أيضًا، وَجَدَ بَعضُ الدارسين لنظريةِ كوبر تماثُلًا بين هجرة الهنود إلى شرق أفريقيا حيث التواجد البريطاني المُهَيمِن على الهند، وهجرة اللبنانيين إلى غرب أفريقيا حيث التواجد الفرنسي، الذي كان، وقتها، مُهَيمِنًا على المُقَدَّرات السياسية في لبنان.
ولا يغيبُ عن الأذهان، أنَّ شريحةً كبيرةً من شيعة لبنان، اختارت الهجرة إلى أفريقيا، وخلال عقودٍ سبعة حقّقَ المهاجرون الشيعة، ما لم يُحقّقه غيرهم من المهاجرين إلى القارة السمراء. والازدهارُ العُمراني في بلدات جنوب لبنان، مسقط رأس العديد من هؤلاء، شاهدٌ على هذه النجاحات، التي أنعشت البيئة الشيعية، وعزّزت الوحدة الوطنية مع باقي اللبنانيين.
إنَّ امتلاكَ هويةٍ ثقافيةٍ مُغايرةٍ عن الثقافة الوطنية التأسيسية، من شأنه أن يفرزَ حالاتٍ كيانية مُختلفة تؤدّي، في المدى البعيد، إلى “صراعِ الهويَّات” الذي تَضعفُ معه إمكانية بقاء وتطور الهوية الوطنية الجامعة.
على الرُغمِ من أنَّ “حزب الله” أعلنَ تراجعه عن إقامة “جمهورية إسلامية” في لبنان، تقومُ على “ولاية الفقيه” (كما هو الحال في إيران)، فإنَّ القاعدةَ التي نمت عليها فكرة “البيئة الحاضنة”، كبيئةٍ شيعيّة، تتمايزُ ثقافيًا ومُجتَمَعيًا عن بقيّة المكوّنات اللبنانية، لا تُسعِفُ في قيامِ “وحدةٍ” في الوطن الواحد، وهو أمرٌ يختلفُ جوهريًا عن “الوحدة الوطنية” الشكلية المُستَخدَمة تاريخيًا لتقطيع المراحل.
إنَّ التركيبةَ المُعَقَّدة، التي يصفُها بعضُ السياسيين، بأنّها “دولةٌ داخل الدولة”، يصعبُ معها فَهم حالة الانفصام الوطني المُتمادي، بحصرها في إطارِ الصراعِ السابق للاحتلال الإسرائيلي للجنوب، كما إنّهُ من الصعوبة بمكان فهمها في إطارِ فَرَضِيّةِ ضرورة بقاء لبنان في حالةِ صراعٍ دائمٍ حتى زوال الكيان الصهيوني، أو إلى حلٍّ للقضية الفلسطينية يقبل به الفلسطينيون بضمانةِ العالمِ كلّه.
أن تَضَعَ “البيئة الحاضنة” الولاء لهويتها الإسلامية في مرتبةٍ أعلى وأوسع من الهوية الوطنية، من شأنه أن يقضي على القاسم المشترك، الذي يجمع تلك البيئة مع فئات لبنانية أخرى لها موقف مُماثل من الاحتلال الإسرائيلي ومن الحركة الصهيونية. ولذلك، فإنَّ ما يصحُّ في حالةِ المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي، لا يصحُّ في الوضع اللبناني الفُسيفسائي في المدى البعيد.
إنَّ الفارِقَ لا يبدو شاسعًا بين أن تكونَ أيُّ حركةٍ عقائدية حالةً إيجابيَّة مُنفَتِحة ومُبدِعة وخلّاَقة، وبين أن تتحوَّلَ إلى وَضعيةٍ سلبية، معزولة ومنعزلة، في داخلها صراعٌ صامت، وفي خارجها نزاعٌ صاخب مع الآخرين، فتُصبحُ “الهجرة”، كما شخَّصتها صوفي كوبر، هي الحالة الدائمة، فتنقلب فكرة استنزاف العدو، المبرر الأصلي لنشوء حركة المقاومة، إلى نزفٍ واقعي لشعبِ الوطن وموارده وطاقاته الإبداعية.
إنَّ مُراجعةَ ما تبدَّى عبر التاريخ من حركات المقاومة في العالم ، من ثورة سبارتاكوس (ثورة العبيد في الدولة الرومانية) في القرن الأول قبل الميلاد، إلى كلِّ الحركات الثورية وحركات المقاومة في العصور الحديثة، من الثورة الفرنسية، الى البلشفية في روسيا، ومن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، إلى المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال والاستيطان الفرنسي، وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، تُظهِرُ جليًّا أنَّ أيًّا منها لم يأخذ فكرة المقاومة أو “البيئة الحاضنة لها” على أنها حالةٌ مُستَدامة للمستقبل. وقد فشلت جميع المحاولات اليسارية المُتَطَرّفة في العالم بطرحها فكرة “الثورة الدائمة”، لأنَّ الناس في المجتمعات السويَّة ترغب في السلام، والاستقرار، والازدهار، والاستمتاع بمباهج الحياة. ولهذا أيضًا أخفقت “الثورة الثقافية” التي قادها ماو تسي تونغ في الصين الشعبية، لأنها كادت أن تُوصِلَ البلاد الى حربٍ أهلية، لولا الانعطاف الناجح الذي قاده دينغ سياو بينغ، مما جعلها قوة عُظمى في العالم.
يبقى أنه مهما تعدَّدت وتنوَّعت المُبرّرات لمنح “البيئة الحاضنة” هويةً مُتميِّزة، تظلُّ حالةً استقطابية تُشَجِّعُ على قيامِ “بيئاتٍ حاضنة” قبالتها تحت مُسَمَّيات مختلفة مثل “الأمن الذاتي”، أو “الدولة المدنية العلمانية”، أو غير ذلك من الذرائع التي يُمكِنُ أن يتصاعد غليانها وصولًا إلى احتكاكاتٍ تُطلِقُ شرارةَ حربٍ أهلية جديدة، هي قائمة أصلًا في السياسة وفي الإعلام.
ليس لبنان بلدًا فريدًا في نظامهِ الحرِّ المَزعوم، بل من حيث هو حالة تأسيسية دائمة، بمعنى أنَّ نظامه السياسي والكياني لم يستقر بعد على صيغةٍ نهائية. ولذلك، فإنَّ الحالةَ المتولِّدة من الاستقطاب الحاد، سوف تجعلُ من الولادة التأسيسية الجديدة “عملية قيصرية” استنزافية مؤلمة، بفعل تصارع الهويَّات، في غياب هويَّة وطنية جامعة فوق بقيَّة الهويَّات.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.