إسرائيل تُغَيّرُ “قواعِدَ اللعبة” مع إيران لصالِحِها

مايكل يونغ*

مع استمرارِ الصراعِ بين “حزب الله” وإسرائيل في ظِلِّ حَربِ غزّة، أُثِيرَ مُصطَلَحُ “قواعد اللعبة” مرّاتٍ عدّة لشَرحِ كيفيّةِ رَدِّ الطَرَفَين عسكريًا على بعضهما البعض مع تجنّبِ التصعيدِ الذي قد يُسبِّبُ أضرارًا كبيرة لكلَيهِما.

مع ذلك، فمنَ الواضحِ أيضًا أنَّ قواعدَ اللعبة المزعومة قد انتُهِكَت بشكلٍ مُتكرّر من قبل الإسرائيليين. وهذا يُشيرُ إلى أنَّ ما يُسَمّى “حوار الردع” بين “حزب الله” وإسرائيل -وهو المصطلح الذي صاغه الباحث الإسرائيلي يائير إيفرون في سياق العلاقة الإسرائيلية-السورية خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية- ليس حوارًا حقيقيًا ولا نَجَحَ في رَدعِ إسرائيل.

ظهرت “قواعد اللعبة” لأوّلِ مرة في العام 1996، عندما شنّت إسرائيل عملية “عناقيد الغضب” في لبنان، والتي انتهت باتفاقٍ غير رسمي، عُرف ب”تفاهُمِ نيسان”. وسعى الاتفاقُ إلى حمايةِ المدنيين على جانِبَي الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، في وقتٍ كان “حزب الله” يُحارِبُ الاحتلالَ الإسرائيلي. لكن ما فعله هذا الاتفاق فعليًا هو إضفاء الشرعية على قرارِ أيٍّ من الطرَفَين بانتهاكِ مبادئ التفاهم انتقامًا من الطرفِ الآخر الذي فَعَلَ ذلك أوّلًا.

وقد تطوّرَ ذلك بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار (مايو) 2000. في ذلك الوقت، ادّعى “حزب الله” أنَّ إسرائيل لا تزال تحتلُّ أراضٍ لبنانية، لا سيما مزارع شبعا. لكن إسرائيل والأمم المتحدة رفضتا هذا الإدّعاء. هذه المزارع، إذا لم تكن لبنانية، فهي من الناحية التقنية جُزءٌ من مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وقد قَبِلَ الإسرائيليون بمستوى مُعَيَّن من هجمات “حزب الله” في هذه المزارع، حيث ظلت منطقةً مُتنازَعًا عليها.

وسواءَ كانَ الأمرُ يتعلق ب”تفاهم نيسان” أو المرونة النسبية التي أبدتها إسرائيل بشأنِ عمليّات “حزب الله” في مزارع شبعا، فإنَّ التفاعُلَ بين الجانبين كان محكومًا بمستوى مُعَيَّن من الواقعية والتناسُب المقبول. لقد أدركَ كلٌّ من الطرَفَين أنَّ الآخر قد يُلحِقُ ضررًا كبيرًا بلبنان أو إسرائيل إذا تمَّ التخلّي عن القواعد، وبالتالي تَصَرَّفَ ضمنَ خطوطٍ حمراءٍ مُعَيَّنة.

مع ذلك، تمَّ تجاوزُ هذه الخطوط الحمراء بشكلٍ مُتزايد منذ بداية حرب غزة، وهناكَ سببٌ لذلك. إنَّ ما يجري الآن هو محاولة إسرائيلية لإعادةِ كتابةِ مُعادلةِ الردع ــ في لبنان، ولكن أيضًا في سورياــ بحيثُ تميلُ بشكلٍ أكبر لصالحِ إسرائيل.

قبلَ نحو عام تقريبًا، حاول “محور المقاومة” الموالي لإيران أن يفعلَ الشيءَ نفسه من خلالِ طَرحِ استراتيجيةٍ أصبحت تُعرَفُ ب”وحدة الساحات”. كانت الفكرة هي أنَّ شبكة إيران من الوكلاء الإقليميين سوف تتعاون في فتحِ جبهاتٍ مُتعدّدة ضد إسرائيل ردًّا على الإجراءات الإسرائيلية التي تُعتَبَرُ غير مقبولة – على سبيل المثال، إنتهاك حرمة المسجد الأقصى في القدس.

كانت المخاطر واضحة على الفور للعديد من المراقبين، لأنَّ الاستراتيجية أشارت ضمنًا إلى أنَّ المواجهة المحصورة بين “حماس” وإسرائيل في غزّة يُمكِنُ أن تمتدَّ فجأةً إلى لبنان أو سوريا أو العراق أو حتى اليمن، إذا دخلَ حلفاءٌ إيرانيون آخرون في المعركة دعمًا ل”حماس”. وربما كان هذا التوقّع هو الذي دَفَعَ قيادةَ “حماس” في غزة إلى مهاجمة إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّ توقّعات القيادة لم تتحقّق إلّا جُزئيًا.

على الفور تقريبًا، أوضح “حزب الله” أنه لا يريدُ أن يرى تصعيدًا كبيرًا في الحرب مع إسرائيل، وكذلك إيران ــ وبالتأكيد ليس إذا تدخلت الولايات المتحدة نيابةً عن إسرائيل. وفي خطاباتٍ مُتتالية، ذكر الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله أنَّ لبنان كان مُجَرَّد “جبهة دعم” ل”حماس”، في حين أشارَ ضمنًا أيضًا إلى أنَّ الحقائق الاقتصادية والاجتماعية في لبنان تعني أن البلاد غير قادرة على استيعابِ حربٍ واسعة النطاق.

مثل هذه الاعترافات من “حزب الله” وإيران شجّعت الإسرائيليين على رَفعِ مستوى الرهان. كلُّ شيءٍ يُوحي بأنَّ المُقامرة نجحت. قتلت إسرائيل العشرات من عناصر “حزب الله” والقيادي البارز في “حماس” صالح العاروري في لبنان، بالإضافة إلى عددٍ من الجنرالات الإيرانيين في سوريا، قُتِل اثنان منهم في مجمع السفارة الإيرانية في الأسبوع الماضي. كما دَمَّرَ الإسرائيليون مناطق زراعية واسعة في جنوب لبنان، وقصفوها بالفوسفور الأبيض.

يبدو أنَّ إسرائيل تُحاوِلُ تطبيعَ وَضعِ الرَدعِ غير المُتوازِن الذي يُمَكّنها من خلاله توجيه ضربات أقوى بكثير ضد “حزب الله” وإيران، من دون أن تتوقَّعَ منهما الردّ بالمثل لأنهما حريصان للغاية على تجنّبِ تصعيدٍ عسكري كبير.

وإذا نجح الإسرائيليون في فعلِ شيءٍ كهذا، فقد يدفع ذلك الإيرانيين إلى إعادة النظر في استراتيجية “وحدة الساحات”. لا يُمكِنُ لهذه الاستراتيجية أن تَصمُدَ إذا كانت عتبة العنف التي يُمكِنُ أن يتحمّلها المشاركون في محور المقاومة أقل من عتبة العنف الإسرائيلية، لأنَّ الردعَ الفعّال يدورُ حول قدرة أحد الطرفين على التصعيد إلى مستوياتِ الخصم.

يكمُنُ الخطرُ في أنَّ “حزب الله” وإيران قد لا يسمحا لإسرائيل بفرضِ مُعادلةِ رَدعٍ مُتفاوتة عليهما. وقد يكونان على استعدادٍ لتحمّل العقاب في الوقت الحالي، ولكن عاجلًا أم آجلًا سيتعيّن عليهما إعادة ضبط العلاقة، لضمان عدم استمرار إسرائيل في تقييد هامش مناورتهما. ولكن لكي ينجح ذلك، قد يكونُ من الضروري حدوثُ نوعٍ من المواجهة، حتى تشعر إسرائيل بالألم.

من خلال محاولتهم تغيير الوضع الراهن القائم منذ فترة طويلة مع إسرائيل، لا بدَّ أن الإيرانيين كانوا يعلمون أنهم سيخوضون مخاطرة كبيرة. ومشكلةُ الردع هي أنه غالبًا ما يتم تثبيته من خلال سياسة حافة الهاوية. وهذا يعني ضمنًا أنَّ صدامًا مباشرًا بين إيران وإسرائيل، بما في ذلك من خلال “حزب الله”، قد يكون لا بدّ منه وعلى الطريق. عندما تكون المصداقية على المحك، فإنَّ التغاضي ليس خيارًا.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى