لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (41): التَحَكُّمُ بَدل الحُكم
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
يَقِفُ “حزب الله” فريدًا في البيئة الشيعية، ومُتَفَرِّدًا بين الأحزاب اللبنانية. لذا، فهو قادرٌ على فَرضِ القرارات، والخِيارات السياسيّة التي تتواءَمُ مع أهدافه، محلّيًا وإقليميًا، وتعطيل كل ما يقف حائلًا أمامَ تحقيقِ تلكَ الأهداف.
إنَّ القدرةَ التي يتمتّعُ بها الحزب مُستَمَدّةٌ من المقدرةِ على تقديمِ الخدمات الاجتماعية والضرورات الحياتية لبيئته الحاضنة، التي هي ترسه ودرعه الواقي، فوثَّق روابطه بها، فسدَّ بذلك عجز الدولة عن تأمين تلك الخدمات، التي ينفق عليها مما يستحصل عليه من دعم مالي وافٍ ومُستدام من “الجمهورية الإسلامية” في إيران، باعتراف الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وهذا ليس مُستَغرَبًا في السياسة اللبنانية القائمة على “الزبائنية”، إلّا أنه مُتَفرّدٌ في وسعِ قدرته.
في 18 كانون الثاني (يناير) 2006، (قبل حرب تلك السنة المُدَمِّرة بسبعة أشهر)، أنكرَ أمين عام “حزب الله”، الرغبة أو “النِيّة”، في الحُكم، فقال في جريدة “الحياة”، التي كانت تصدر من لندن: “ليست لدى الشيعة نيَّة لحُكم لبنان، وأقصى ما يطمحون إليه، هو الشراكة مع بقيّة اللبنانيين”.
إلّا أنَّ المُتغَيِّرات السياسية الداخلية والاقليمية بدَّلت “النيَّة”، فجعلت الحزب يُفاضِلُ بين “الحُكم” و”التَحَكُّم”، فجنحَ إلى التحكُّم، الذي سمحَ له إدارة الأمور عن بعد، والتنصّل من مسؤولية انهيار الدولة وتفكّكها.
إنَّ ما ساعدَ الحزب على ذلك امتلاكه ترسانة متقدّمة من الأسلحة الحديثة المتطوِّرة، مكّنته من مواجهةِ إسرائيل ومعادلتها ميدانيًا. وبالتالي، أخذَ لنفسه حرّية الانفراد بقرارِ الحربِ والسلم من غيرِ مُشاورَةِ أحدٍ من القوى السياسية اللبنانية الأخرى، بما فيها الدولة اللبنانية وجيشها الوطني وقواتها الأمنية.
وعاملٌ آخر ساعده على التحكّم، ثُنائيته مع “حركة أمل”، التي يحرصُ عليها حرصًا وجوديًا، لأنّها مكّنتهما من احتكار التمثيل الشيعي من دون مُنازِع، مما جعلَ أي قرار وطني رهن قبولهما أو رفضهما. وليس خافيًا على اللبنانيين أنَّ “حزب الله” بات القوة المُقَرِّرة في الوضع اللبناني الراهن. وفي وقت من الأوقات اعترفَ بذلك علنًا رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، مما أوحى بأنه يستندُ إلى هذه القوة التقريرية في أعماله التصريفية، وبأنَّ هذا الوضع سوف يواجه أيّ رئيس حكومة غيره. وكون رئيس الحكومة أقرَّ بأنَّ الكلمة الأخيرة في السلطة التنفيذية ليست له، يخلق إشكالية تتعدَّى التركيبة الدستورية للنظام اللبناني إلى المسألة الوجودية التي قامت عليها الشراكة الوطنية للجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال والميثاق الوطني. وهذا يؤكّدُ حتمية اختلال التوازن الوطني بفعل فائض القوة لأيِّ مكوِّنٍ من مكوِّنات الكيان اللبناني.
إنَّ حصرَ قوةِ الحزب بسلاحه، أو امتلاكه قرار الحرب والسلم، يُغطي عمليًا انعزال الجسم الشيعي المُتراص عن القوى والأحزاب اللبنانية الأخرى، وأيّ علاقة اتصال مع الآخرين لا تتعدّى السطحية، ولا تَدخُلُ في العُمقِ كشراكةٍ تقريرية.
وقد تبيَّنَ ذلك بوضوح خلال الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عندما انبرى “الثُنائي الشيعي” إلى إحباط تلك الانتفاضة، في إعلانٍ واضحٍ عن رغبتهما في استمرار الأمر الواقع السابق كما هو عليه، بعُجَرِهِ وبُجَرِهِ، خشية أن تتطوّرَ تلك الانتفاضة الشعبية لتنال من البيئة الحاضنة المرصوصة الداعمة للمقاومة.
يقولُ بعض المُنخَرِطين في تلك الانتفاضة أنَّ تدخّلَ “الثنائي الشيعي” اقتصر، بعد الأسبوع الأول، على سحب محازبيهما من ساحة الاعتراض، وتلا ذلك أساليب قسرية لتفريق المُحتجّين. فالانتفاضة الاحتجاجية الواسعة التي انفجرت فجأة، كانت عابرة للطوائف اللبنانية، وبالتالي فإنه ليس من الممكن ل”الثنائي الشيعي” أن يواجهها مواجهةً قمعية سافرة، بل استخدمَ ما يكفي من الوسائل لإعادة الاصطفاف على القواعد الطائفية السابقة.
مُنذُ ما قبلَ دخولِ “حزب الله” شريكًا في السلطة السياسية، تصرَّفَ علنًا على أساسِ أنَّ المقاومة ليست بحاجة إلى إذنٍ من أحد، بل دَحضَ علنًا، فكرة الإجماع الوطني لتحصينِ المقاومة. فقد آثرَ الحزب أن تستندَ المقاومة إلى فكرة “البيئة الحاضنة” الموثوقة لتحصين نفسه بدلًا من التضامن الوطني غير الموثوق. ومن هنا نشأت إشكالية التناقض بين المقاومة كعمل سرِّي في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وبين المشاركة في السلطة كعملٍ علنيٍّ بعد التحرير. وفي ذهن بقية اللبنانيين، خارج إطار “البيئة الحاضنة”، أنَّ “حزب الله” أراد من مشاركته في السلطة تاليًا، أن يتقاضى منهم ثمن ذلك التحرير، مما يُفسِّرُ في رأي بعضهم هيمنة الحزب على القرار فصارت له “الكلمة الأخيرة”، على قول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
إن إشكالية “البيئة الحاضنة” لا تكمُنُ في السيطرة السياسية، سرَّا أو علنًا، بل في أصلِ التركيبة الكيانية المُتَفَق عليها للوجودِ اللبناني التعدُّدي المانع لاختلالِ التوازن حيث يؤدِّي اختلاله دومًا إلى تجدُّدِ الحربِ الأهلية بأوجهٍ مُختَلفة. ذلكَ أنَّ فكرةَ “البيئة الحاضنة”، والمقصود بها البيئة الشيعية تحديدًا، تُعطي انطباعًا بأنَّ المقاومة ليست بحاجة إلى أيِّ طَرَفٍ آخر لتحصين نفسها، بمعنى أنَّ أيَّ بيئةٍ أخرى من المُستَبعَد، أو ربما من المستحيل، أن تكونَ حاضنة، هذا إذا لم تُعتَبَر مُعادية. وبهذا المعنى، تُعطي انطباعًا بأنّها فكرةٌ انفصالية، أو انعزالية، أو حتى تقسيمية. فالتحصينُ بالمعنى المانع للاختراق من العدو الخارجي يُمكن في وضعٍ تعدُّدي، كالوضع اللبناني، أن يتحوَّلَ إلى مانعٍ للتلاقي مع بقيّةِ البيئات اللبنانية باعتبارها غير موثوقة أو لديها أجندات مُختلفة.
إنَّ التهمة التقسيمية، التي طالما رُميَ بها المكوِّن المسيحي، كذريعةٍ من ذرائع الحرب الأهلية، هي تهمةٌ باطلة من الأساس، لكن التعامل مع ذلك المكوِّن ما زال مستمرًّا على أساس هذه التهمة، مع أنه هو الذي اختار “لبنان الكبير” للعيش مع الآخرين بالشراكة والتوازن.
في هذه الإشكالية يَكمُنُ سرُّ استمرار إثارة النزعة التقسيمية في وَجهِ المكوِّن المسيحي كلما طالب بشيءٍ من شأنه تصحيح الاختلالات الحاصلة بفعل اختلال الموازين التاريخية.
على أنَّ ذلك يبقى أقلَّ مدعاة للاختلال الكياني من تحوُّلِ “البيئة الحاضنة” (الشيعية)، تحت دعوى الاضطرار إلى التحصين، إلى ما يشبه “الغيتو” الخائف من الآخرين، وهو الذي يخيفهم، فتنشأ فيه مع الوقت ثقافةٌ مُغايِرة، ومصالح مُتباعدة، أو حتى طرائق عيش مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يأخذُ مفهومُ الشراكة الوطنية معنىً مُغايرًا ليصبح، كما ظهر من خلال القول بأنَّ ل”حزب الله” “الكلمة الأخيرة”، على قاعدة: “ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم”.
من الملامحِ المُقلِقة لبقية اللبنانيين أن يكونَ شريكٌ مؤسّسٌ في الوطن، من لبنان ظاهريًا وليس فيه عمليًا، لأنَّ فكرة “البيئة الحاضنة” تُعطي معنى عدم الثقة بالشركاء الآخرين، والاختلاف بكل ما عدا ذلك بحيث يمكن للقائلين بالتحصين في “البيئة الحاضنة”، أنَّ حلَّ هذه الإشكالية هو في السيطرة على الآخرين من خلال الاستحواذ على “الكلمة الأخيرة”، فيصبحون مهمَّشين ومنقسمين فيخفُّ وزنهم وتذهب ريحهم.
وما كانت فكرة “البيئة الحاضنة” لتتجذَّر وتأخذُ بُعدها الخلافي في السياسة، والاختلافي في الثقافة، لولا الأوضاع الإقليمية والدولية المؤاتية لمثل هذا التوجه، الذي ربما لم يكن مقصودًا في الأساس من أهل تلك البيئة. لكن ما حدث قد حدث، والتفكيرُ قد يَنصَبُّ على البحث عن صيغة، سلبية بطبيعتها، في حال لجأت المكوّنات الأخرى إلى اعتماد نظريَّة “البيئة الحاضنة” ذاتها، لحمايةِ نفسها من استقواءِ فريقٍ واحدٍ بحصانة بيئته.
والأغلب على الظن أنَّ مثلَ هذا التطور، المُمكِن نظريَّاً، مُستَبعَد في المدى المنظور، بسببِ الانقسامات الكثيرة في البيئات الأخرى، مُقابل التراص والتماسك في “البيئة الحاضنة” القائمة في المكوِّن الشيعي.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.