لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (40): “أمل” والخِياراتُ السَيِّئة
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
مضى عليها نصفُ قَرنٍ ويزيد، ولمَّا تزل قضية اختفاء الإمام موسى الصدر (1978)، يكتنفها الغموض، ليس في ما نَتَجَ عنها، وإنّما في أسبابها ومُسبّباتها، التي ساد حولها جَدَلٌ كثير.
وبعد سقوط نظام معمر القذافي، المُتَّهَم بها، مخرَ عبابَ تلك القضية كثيرون، ولم تهدأ التكهّنات والفرضيات، وكأنه لا يُرادُ أن يُفصَلَ في أمرها.
بعد تغييب الإمام، فَشِلَ السيِّد حسين الحسيني، (رئيس مجلس النواب، وكاتم أسرار مؤتمر الطائف، وخافي مسودّاته، كما يقول ميشال معلولي)، الذي تولّى قيادة حركة الإمام، في الحفاظ عليها، وعدم تحويلها إلى “تنظيمٍ مُسلَّح” ينضمُّ إلى التنظيمات الطائفية، وينغمسُ في أتون الحرب الأهلية.
وللحسيني يدٌ مع الإمام في تأسيس الحركة، كقوّةِ دَفعٍ للتلاقي، والتحاور، والتفهّم والتفاهم، مع المكوّنات اللبنانية الباقية، فانخرط، معهما، رجال دين من طوائف أخرى، ورجال فكر، وسياسيين، نشروا الفكرة وخدموها.
وعندما أيقنَ إمام المحرومين، أن الدولة تسير في طريق التفكك، والانحلال البطيء، ولن يكونَ، تبعًا لذلك، بمقدورها حماية مواطنيها، والتصدّي لمختلف الأعمال العدوانية على الجنوب، حيث الكثرة الشيعية، بفعل الوجود الفلسطيني المسلّح هناك، (بموجب “اتفاق القاهرة” الذي أُبرِمَ برعاية الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1969 وكرَّس انتهاك السيادة اللبنانية)، مالَ الصدر خلال السنوات الفاصلة بين “اتفاق القاهرة” واندلاع الإحتراب الداخلي سنة 1975، إلى جعل الحركة تنظيمًا مُسلّحًا: “افواج المقاومة اللبنانية” (أمل).
إلَّا أنَّ الإمام حرص خلال فترة وجوده في لبنان على عدم انغماس “أمل” في القتال الطائفي، وحاول الحسيني، من بعده، واستقال سنة 1980 دفاعًا عن ذلك.
لكنَّ هناك أسبابًا أخرى جعلت الحسيني يترك الحركة، التي أسهم في تأسيسها، من أهمّها أنَّ النظامَ السوري لم يكن مُرتاحًا إلى مواقفه، وكانت انتخابات سنة 1992 قطعت شعرة معاوية بينه وبين الرئيس حافظ الأسد، الذي لم يستطع تحمّلَ انتقادات الحسيني حول العملية الانتخابية، وما شابها من ترغيبٍ وترهيبٍ وتزوير، لأن لائحته أُسقِطَت، وفاز بمفرده، فعاقبه الأسد بعدم عودته إلى رئاسة مجلس النواب.
وقد تكونُ مُعارضةُ الحسيني للرئيس الياس الهراوي، القاسية، هي الأخرى أسهمت في احمرار عين دمشق عليه.
وَصَلَ نبيه بري إلى رئاسة الحركة، فابتعدَ بها عن المفهوم الأصلي، بفعلِ الانخراطِ المُستَدام في الحرب الأهلية. فهو بدافعٍ من النظام السوري، اختار النصف الأخير من مُعادَلَة الإمام، تحت عنوان “السلاح زينة الرجال”، مُتناسيًا النصف التأسيسي السلمي الجامع للمكوّنات اللبنانية الأخرى، وقد يكون مردُّ ذلك، عنده، إلى أنّهُ باختفاء الإمام اختفت مَرجَعية التصويب، أو لأنَّ الإحترابَ الداخلي، خلافاً لتوقّعاته، وتوقّعات سائر اللبنانيين، طالَ أمده، فتغيّرَت الحسابات ومالت الموازين.
وخلافًا لما كانت عليه الحركة، بقيادة الحسيني، حيثُ كانَ عملها في إطار السياسة اللبنانية التي كانت سائدة حتى سنة 1975، فإنّها على عهد برّي، المُمتَد، عملت في إطارِ الأمرِ الواقع السوري المُسَيطِر على لبنان، خلال الحرب الأهلية وبعدها، أو بتعبيرٍ آخر، نَقَلَ بري “أمل” من العمل السياسي المحلّي المحدود، إلى العملِ كحالةٍ ميليشياوية مُتَوَسِّعة على إيقاعِ أجندةٍ إقليمية مُتقلّبة.
وربما لهذا السبب اتّسَعت مروحة معاركها في اتجاهات متعدّدة، منها اشتباكٌ مع “حزب الله” كادَ أن يؤدّي إلى “حَربٍ أهلية شيعية” داخل الحرب اللبنانية. وقد جرى تدارُكُ هذا الأمر بتفاهُمٍ طويلِ الأجل، ربما بتأثيرٍ خارجي، ومن هذا التفاهُم، المُستَمِرّ حتى الآن، نشأت الحالة التي أطلقوا عليها اسم “البيئة الحاضنة”، أي وحدة الطائفة الشيعية المؤيِّدة والداعمة للمقاومة، والمُحَصِّنة لها، والمانعة لاختراقها، وخزّانها البشري، والمنبت المحلي لكوادرها ومقاتليها.
حدثَ ذلك بتدبيرٍ من إيران، ولإتمامه ونفاذه كانَ لا بُدَّ من إزاحةِ قُطبَي الشيعية السياسية، محمد حسين فضل الله وحسين الحسيني، فوُجِّهت الأنظار إلى السيد حسن نصر الله لحجب فضل الله عن التأثير الوازن في البيئة الشيعية، بينما كُلِفَ نبيه بري بدعمٍ من دمشق، تغييب أثر الحسيني السياسي، قبل أن يُغَيِّبهُ الموت في 11 كانون الثاني (يناير) 2023. وقد ساعد على ذلك مقاطعته لمجلس النواب، احتجاجًا على ما أفرزته انتخابات 1992 من نتائج مُقَرَّرة مُسبَقًا، بما في ذلك رئاسة المجلس المُطَوَّبة مدى الحياة للرئيس نبيه بري.
فكانَ ما صار يُسمّى “الثُنائي الشيعي”، غير القابل للاختراق أو التزعزع، فاستحالَ إلى قوةٍ سياسية أولى في البلاد، فضلًا عن قوته العسكريَّة، بحيث لم يعد مُمكنًا انتخاب أيّ رئيس، أو تشكيل أيّ حكومة، أو القيام بأيِّ تشريع، من غير موافقته، وفوق ذلك، لم تعد هناك أي جهة شيعية أخرى قابلة، أو مؤهَّلة، للخروج عن هذا الإجماع المتين.
هي “حالةٌ مُصَفَّحة” بالمعنى السياسي الداخلي، وبالتالي، معزولةٌ عن بقية القوى السياسية اللبنانية، أو تتكلم لغةً غير لغتها. وربما استسهلت عزل نفسها بهذه الطريقة لاعتباراتٍ أمنية، لكونها مُستَهدَفة من إسرائيل، وربما من دولٍ أخرى عربية وأجنبية.
لذلك، أخذت “أمل”، تحت ظل الوصاية السورية، منحىً هجوميًا تجاه قوى سياسية وميليشياوية أخرى على الإيقاع الإقليمي، فتقاتلت مع حركات كانت شاركت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حتى “مؤتمر الطائف” عام 1989. ففي غضون تلك الفترة، اصطدمت “أمل” بالسلاح مع قوى منضوية سابقًا في الحركة الوطنية اللبنانية، منها ” الحزب التقدمي الاشتراكي” في بيروت الغربية، و”حزب البعث” العراقي، كما شنت حربًا دامية على المخيمات الفلسطينية، ومع “حزب الله” قبل تحالفهما المتين، ربما بسببِ تضارُبٍ مؤقّت بين القوى الإقليمية المتنافسة، أو المتحالفة، في لبنان.
كانَ الوضعُ العام في البلاد واقعًا بين المطرقة الإسرائيلية والسندان السوري، فلم تكن أمامه خيارات كثيرة، فانحصرَ ما هو مُتاح منها أمام جميع اللبنانيين، بمن فيهم الميليشيات المسلحة، بين القبول بالأمر الواقع مع استقرارٍ نسبي، أو تفجيره باتجاه الفوضى العارمة بصرف النظر عن النتائج. هما خياران أحلاهما مرُّ، لأنهما يهدفان الى إضعاف الدولة وتفككها.
في ظلِّ الصراعات الإقليمية عبر قوى محلية مسلحة بكلِّ أنواع الأسلحة، من المحتم أن تُصبِحَ الدولة المركزية هي الطرف الأضعف، لكونها عرضةً للاقتسام بين المتصارعين على أرضها. ولا يختلف” الاقتسام” كثيرًا عن “التقسيم” إلّاَ من حيث الشكل، لأنَّ كلَّ قوة محلية تكون مُلزَمة بتدبيرِ الأمور في مناطق نفوذها بما يسمح لها إدامة ذلك النفوذ. ومن الطبيعي أن يكون الفريق القادر على التدبير هو الأكثر وسيلةً للحصول على التمويل، سواء من موارد الدولة المُقتسَمة، أو من مصادر خارجية، إقليمية أو دولية.
من هنا يُمكِنُ تفسير فشل الدعوات للحوار الوطني التي أطلقها الرئيس نبيه بري، من حيث إن انغلاقَ المكوّنات اللبنانية على نفسها، وعلى بعضها، هو في جانبٍ منه نتيجةٌ للحالةِ التي أسهم بري، طوال سنوات، في إرسائها. وهذا ينطبقُ بدرجاتٍ مُتفاوتة على بقيّة القوى السياسية المُعَطِّلة للدولة ومؤسّساتها كافة.
فالأزمة اللبنانية المُستدامة، بلغت حدَّ “التراكم الأقصى” للمقوِّضات السياسية، والاقتصادية، والمالية، والصحية، والبيئية، والإدارية، إضافةً إلى أزمةِ وجودِ أعدادٍ لا تُحصى من اللاجئين والنازحين، فوق بُنيةٍ تحتية قديمة ومُتهالِكة أصلًا.
في المحصلة فإنَّ ثقلَ ذلك التراكم، من أهم أسبابه، كثافة الملفات القابعة في “برَّاد جارور” رئيس مجلس النواب، مما جعله يفقد القدرة على استبصار نقطة البداية.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.