لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (5): سُقوطُ القِناع في عمليّةِ الإقناع

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرة لحروب أهلية متواصلة منذ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرقٍ أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباط بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

المجلس النيابي المُنعَقد خارج بلاده، وبغَيرِ صفةٍ دستورية، لأنه مُمَدِّد لنفسه لعشرين سنة مُتواصلة، لا يستطيع أن يُقنِعَ أحدًا، بأنَّ ما فعله في مدينة الطائف السعودية يُمثّلُ إرادةَ الشعبِ اللبناني، طالما أنَّ ذلك المجلس لم تكن له صفةٌ تمثيلية.

ولذلك جرى، وما زال يجري حتى الآن، التكتّمُ حول حقيقة ذلك الاتفاق، وحقيقة مضمونه. وهذا التكتّمُ بحدِّ ذاته يلغي أي وسيلة إقناعية بدستوريته، أو فلنقل بمناعته أمامَ الطعنِ الجدّي. وهذا ما جعل “الطائفيين”، من طريق الترهيب والترغيب والإعلام، يضفون عليه هالة وهمية من الكمال المانع حتى لمناقشته مناقشة إقناعية حرَّة.

لكن البحر، كما يقول الصيَّادون، دائمًا يُكذِّب الغطَّاس. فلننظر في بعض المسائل البسيطة، من الزاوية الإقناعية:

أُعلِنَ في “اتفاق الطائف” أنَّ عددَ أعضاء مجلس النواب الجديد الذي سيجري انتخابه، ليحلّ محلّ المجلس المُمَدِّد لنفسه عشرين سنة، سيكون 108 نواب، بدلًا من 99 نائبًا حسب قانون ما قبل الحرب. ولكن عندما وضع المجلس إياه قانون الانتخاب الجديد في بيروت، ضربَ عرض الحائط بما اتفق أعضاؤه عليه في الطائف، ورفع العدد من 108 الى 128، ولم يظهر في البلاد أيُّ اهتمامٍ بالأمر او اعتراض عليه.

قرَّرت الحكومة اللبنانية القائمة على ثقةِ برلمانٍ ناقصِ العدد وناقصِ الشرعية، تعيين نواب في المقاعد النيابية الشاغرة بفعل وفاة عدد كبير من قدامى النواب المُمَدِّدين لأنفسهم. فكيف يكون شرعيًا مجلسٌ مُمَدِّدٌ لنفسه عشرين سنة، وعدد لا يستهان به من أعضائه باتوا مُعَيَّنين بمراسيم حكومية، في مخالفة صريحة لأبسط القواعد البرلمانية، وهي أنَّ النائبَ يجب أن يكونَ مُنتَخبًا من الشعب في دائرته بأغلبيةٍ واضحة غير قابلة للطعن.

إذا كانت حجّةُ، أو على الأصح، ذريعةُ تمديد مجلس النواب لنفسه، أنَّ الحربَ الأهلية حالت دون إجراءِ انتخاباتٍ عامة، فأيُّ ذريعةٍ هي التي أملت على المجلس المُنتَخَب في العام 2009، والبلد في حالةٍ من السلام التام في ظل “اتفاق الطائف”، أن يُمدّدَ لنفسه ثلاث مرات حتى العام 2018، وكأن شيئًا لم يكن. وهذا في المنطق، وقياسًا على ذرائع التمديد في خلال الحرب، يعني أنَّ الحربَ الأهلية في لبنان ما زالت مُستَعِرة تحت الرماد ولو كانَ ظاهرها السلام. وكلُّ الذين قبلوا، أو سمحوا، بتلك التمديدات المُستَخفّة بعقول الناس، فلا بدَّ من أن تجري مُساءَلتهم في يومٍ من الأيام، إن لم يكن من المواطنين، ففي سجلَّات التاريخ على الأقل.

كانت الذرائع السابقة تلقي بكامل المسؤولية على “الوصاية السورية” لعجز الطبقة السياسية عن الإقناع، لكنها في الوقت ذاته أظهرت مدى تبعيتها لتلك الوصاية (أو لغيرها) متى أتت.

إنَّ المقاطعة المسيحية لأوّلِ انتخاباتٍ بعد “اتفاق الطائف”، والتي جرت في العام 1992 بقيادة البطريركية المارونية، كانت مقاطعة شكلية سرعان ما تمَّ التراجعُ عنها تاليًا، لأنَّ البطريركية المارونية كانت من أهل الطائف وما زالت.

فلننظر الآن في مسألة القناعة والإقناع من منظار الحرب الأهلية الإسبانية:

بتاريخ 12 تشرين الأول (أكتوبر) 1936 أُقيمَ احتفالٌ في جامعة سالامانكا بمناسبة ذكرى اكتشاف البحّار كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية، بحضور السيدة ماريا مارتينيز–فالديز، زوجة الجنرال فرانثيسكو فرانكو قائد القوات “الفالانجية” اليمينية، وبحضور الجنرال السابق ذكره ميلان استراي قائد الفرقة الأجنبية المُقاتلة ضدّ الجمهوريين. وفي ذلك الاحتفال ألقى عميد الجامعة، وهو استاذ في الفلسفة من منطقة الباسك، اسمه البروفسور ميغيل دو أونامونو، كلمة حول القناعة والإقناع أدهشت كثيرين وفاجأت آخرين. فقد قال في تلك الكلمة: “هنا هيكل العقل والفكر وأنا كاهنه الأعلى، لكن أنتم هم الذين يُدنِّسون حَرَمَهُ المقدَّس. سوف تربحون، لكنكم لن تكونوا مُقْنعين. سوف تربحون لأنكم تملكون أكثر مما يكفي من القوّة الغاشمة، لكنكم لن تكونوا مُقنِعين، لأنَّ الإقناعَ يقتضي امتلاك الحجّة الدامغة. ولكي تمتلكوا حجّةَ الإقناع، يلزمكم شيءٌ تفتقرون إليه، ألا وهو العقل والمنطق والحق في الصراع”.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى