لبنان…الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (6): تَدَخُّلُ الخارج وقابِلِيَّةُ الدَّاخِل
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
في جميعِ الحروبِ الأهلية، ومن أقدمِ الأزمنة، تَحدُثُ تدخّلاتٌ خارجية بين المُتقاتِلين من الدولِ الإقليميّة المُجاوِرة عادةً، كما رأينا في التدخّلِ الفارسي إلى جانبِ سبارتا ضد أثينا في “حرب بيلوبينيز” في القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا أمرٌ طبيعي لأنَّ مثلَ هذه الحروب يُمكنُ أنْ تمتدَّ إلى دولِ الجوارِ فتُزَعزِعُ أمنها، فضلًا عن تدخُّلِ المُهَرِّبين وتجّارِ السلاح.
لكنَّ الحروبَ الأهلية الحديثة تختلفُ من حيث كونها تستدرجُ تدخُّلاتٍ عالمية النطاق، وفي أحيانٍ عديدة قد لا يكون نشوبُها في أيدي القوى المحلّية، بل يُمكنُ أن يكونَ مُفتَعَلًا من قبلِ قوى خارجية كما شاهدنا في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربية.
هذا النوعُ من التدخُّلِ الخارجي، وأبرَزُه “التدخّل الوقائي”، و “التدخّل المُفتَعَل” يختلف عن التدخُّلات التي حدثت في حالاتٍ أُخرى كالحالة اللبنانية، أو الحالة الإسبانية، حيث القوى الداخلية المُتصارِعة هي التي استدرَجَت التدخُّلَ الخارجي وَسَعَت إليه لأسبابٍ مختلفة أهمّها إثنان: الأوّل الحاجة إلى تمويلِ الحرب، والثاني هو الحاجة إلى الاستقواءِ بقوّةٍ خارجية لدَحرِ خصمٍ داخلي.
ففي الحَربِ الأهلية الإسبانية، عندما أعلن الجنرال فرنثيسكو فرانكو إنه سوفَ يُدَمّرُ مدينة مدريد العاصمة، ولن يتركها في أيدي الماركسيين، مُستَعينًا بطائراتٍ حربية من ألمانيا النازيَّة ومن إيطاليا الفاشية، أعلن راديو الجمهوريين صرخةَ استنجادٍ ساذجة بالغرب، جاء فيها: “إنَّ الجيوشَ الزاحفة اليوم على مدريد وبرشلونة وفالَنسيا، سوف تزحفُ غدًا على لندن وباريس وواشنطن (من دراسة روبرت كولودني بعنوان “الصراع على مدريد” الصادرة في كتاب عام 1985).
كذلك بثَّ الجمهوريون إذاعاتٍ تُعبّرُ عن فلسفتهم للحرب الأهلية بأنها “الحدود الكونية التي تفصل الحرية عن العبودية” (من كتاب هيو توماس بعنوان “الحرب الأهلية الإسبانية” الصادر عام 1990).
أمّا فلسفة الجنرال فرانكو، فإنّها تُفضّلُ الحربَ الأهلية الشاملة على الحرب العسكرية النظامية الحاسمة. فعندما أخفقَ الجيش الإيطالي الفاشي في اقتحام المعقل الجمهوري في “غوادالاجارا”، قال الجنرال فرانكو لرئيس أركان الجيش الإيطالي: “في الحرب الأهلية، يجري احتلالٌ مُمَنهَجٌ للأرض يرافقه التطهير اللازم، وهذا أفضل من إنزالِ هزيمةٍ عسكرية بجيوش العدو تترك البلاد في النهاية موبوءةً بالأعداء” (من “صحيفة التاريخ المعاصر”، المُجَلّد التاسع، 1974).
أمّا الحرب اللبنانية، فإنّها من البداية أخذت شكلَ الحرب الأهلية التطهيرية، كما عبّرَ عنها الجنرال فرانكو، لأنه لم تكن في البداية جيوشٌ نظامية. فالجيش اللبناني تم تحييده عن الصراع خشية انقسامه وتشرذمه. لكن جيوشًا نظاميةً أُخرى دخلت، أو استُدْرِجَت، إلى ساحة الصراع من غير نتائج حاسمة، منها جيش التحرير الفلسطيني، والجيش السوري، ثم الجيش الاسرائيلي، ثم القوات المتعدِّدة الجنسيات، التي تضمّنت فصائل من الجيش الأميركي (المارينز)، والجيش الفرنسي، والجيش البريطاني، والجيش الإيطالي، وغيرها.
ففي الحَربَين الأهليَّتَين الأهمّ في القرن العشرين، وهما الحرب الإسبانية والحرب اللبنانية، تحوَّلَ البلدان إلى ساحةٍ لصراعٍ عالميٍّ مفتوح. وقد ساهمت قوى إسبانية وقوى لبنانية في استدراج هذا النوع من التدخّلِ الخارجي للاستقواء به على خصومها في الداخل.
وفي الحالتَين دخلت إلى الساحة قوّاتٌ من المُتَطوّعين غير النظاميين، تمثّلت في الحالة الإسبانية بالألوية الدولية التي ضمّت مُتَطوِّعين من جميع انحاء العالم أغلبهم من المُثقَّفين والفنانين للقتالِ إلى جانب الجمهوريين اليساريين. وكذلك الأمرُ بالنسبة إلى الحرب اللبنانية حيثُ دخلَ إلى الساحة مُتطوِّعون من عَرَبٍ وغير عرب إلى جانب الثورة الفلسطينية التي كانت من مُحرّكات الصراع الأهلي اللبناني منذُ البداية.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com