خِيارُ الانفراجِ بالنسبةِ إلى إيران: أميركا تحتاجُ إلى سياسةٍ أكثر بساطة، ولكن ليس تقارُبًا
تعلّمت إيران أن تلعبَ اللعبة الحالية بشكلٍ جيد، وهي تُدرك مزاياها. على الرُغم من أنَّ الولايات المتحدة لا تستطيع محو جميع الظروف التي تصب في صالح طهران، إلّا أنها تستطيع العمل على تسوية ساحة المعركة مع إيران.
جون ألترمان*
في الأوّل من نيسان (إبريل)، هاجمت الطائرات الحربية الإسرائيلية مبنى في دمشق يُشَكِّلُ جُزءًا من السفارة الإيرانية هناك، ما أسفرَ عن مقتل سبعة شخصيات بارزة في الجيش الإيراني. ولم تَرُدّ طهران بَعَد. ولكن عندما تفعل ذلك، فإنَّ حجمَ وطبيعةَ تصرّفاتها سيساعد على الإجابة عن سؤالٍ أساسي في قلبِ العديدِ من المناقشات حول الوضع الحالي في الشرق الأوسط: هل نجَحَ الرَدعُ الأميركي ضد إيران؟
واجَهَت واشنطن صعوباتها مع إيران منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979، ومنذ ذلك الحين، تُكافِحُ الولايات المتحدة لإيجادِ استراتيجيةٍ ناجحةٍ للتعامُلِ معها. وعلى الرُغمِ من حقيقةِ أنَّ الاقتصادَ الأميركي أكبر بـ 16 مرة من الاقتصاد الإيراني وموازنتها العسكرية أكبر بـ100 مرة، إلّا أنّ إيران أعاقت الجهود الأميركية لإنشاءِ نظامٍ إقليمي مُستَقر. وعلى الرُغمِ من أنه من الصعب التفكير في أيِّ إجراءٍ تتنافس فيه طهران ولو بشكلٍ غامضٍ مع واشنطن، إلّا أنَّ جميعَ الجهودِ الأميركية لتهميش إيران باءت بالفشل خلال معظم العقود الأربعة الماضية. وهذا يُقدّمُ لغزًا. إن الفوارق بين الجانبين كبيرة للغاية لدرجةٍ أنه يمكن الافتراض أنَّ ردعَ سلوكِ إيران الخبيث سيكون مسألةً واضحةً تتعلّقُ بمُعايَرَةِ سياسة الولايات المتحدة وعزيمتها بشكلٍ صحيح. وكان هذا هو المنطق الكامن وراء حملة “الضغط الأقصى” التي شنّتها إدارة دونالد ترامب في الفترة من 2018 إلى 2021، كما إنه ساهم في تحديد مسار واشنطن في الشرق الأوسط بعد هجوم حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر). لكن هذا الافتراض خاطئ.
المشكلة ليست في الردع. بل إنَّ المشكلة هي أنَّ واشنطن كانت تُحاوِلُ أن تفعلَ الكثير مع طهران، باستخدامِ مجموعةٍ محدودة للغاية من الأدوات، على مدى فترة طويلة جدًا من الزمن. على الرُغمِ من أن إعطاءَ الأولوية لأهدافِ الولايات المتحدة واعتماد مجموعة أكثر مرونة من الاستجابات لن يؤدّي إلى إصلاح الشرق الأوسط، إلّا أنه سيُحسّنه بالتأكيد. قد تظلُّ إيران تُشكّل تحدّيًا لصانعي السياسات الأميركيين، لكنها ستصبح على الأقل تحديًا أكثر قابلية للتنبّؤ به.
خصمٌ زَلِقٌ
على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية، حاولت الولايات المتحدة رَدعَ إيران وإخضاعها. لكنّ هذا هو النهج الخاطئ. إنَّ نظرية الردع ليست مُناسِبة للتعامل مع أنواع التحدّيات التي تُمثّلها طهران اليوم. تمَّ تطويرُ الردع خلال الحرب الباردة، عندما –منذ الاختبار الناجح للقنبلة الذرية السوفياتية في العام 1949 وحتى نهاية الاتحاد السوفياتي في العام 1991– كان الاستراتيجيون الأميركيون مُنشَغلين، بحقّ، بمنعِ وقوعِ كارثةٍ عالمية. ولتحقيقِ هذه الغاية، بذلوا قصارى جهدهم لإقناع الاتحاد السوفياتي بعدم التخلّي عن الوضع الراهن باستخدامِ الأسلحة النووية. في جوهرها، كانت استراتيجية واشنطن تُراهنُ على أنه إذا اندلعت حربٌ نووية، فإنَّ الصراعَ سيَفرُضُ تكاليفَ باهظة لا يُمكِنُ تحمّلها على كلا الجانبين. وكان الأملُ هو أن الترسانة النووية الأميركية في البر والبحر والجو، إلى جانب إظهار التصميم، ستضمن التقاعس وعدم إقدام السوفيات على أيِّ مغامرة. ومع أنَّ الأمرَ كان مُكلفًا، إلّا أنَّ أيًا من الطرفَين لن يدفعَ التكاليف الأعلى بكثير للحرب الشاملة. في الوقت نفسه، فإن “الإجبار” هو الجهدُ المبذول لإقناع الخصم بإيقاف أو عكس الإجراء الذي بدأه بالفعل. إن الإجبار أصعب بكثير من الردع، لأنه يتطلب من الخصم أن يتوقّفَ عن القيام بشيءٍ يجري تنفيذه بالفعل، ويتطلّبُ من المُجبِرِ مُتابعة تهديداته المحدّدة. تشيرُ التقديرات إلى أن الإجبار لا ينجح إلّا في حوالي ثلث الحالات، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب رفض الطرف الآخر الاستسلام.
لم تنجح نظرية الردع أو الإجبار في حلِّ مشكلةِ ما يجب فعله مع إيران. منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، كان على الولايات المتحدة أن تُقرّرَ ما إذا كانت ستأخذُ الخطاب الثوري الإيراني حرفيًا أم لا – وبالنظر إلى لهجته ودعم إيران للجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة، فقد بدت في كثير من الأحيان من الحماقة عدم القيام بذلك. وبناءً عليه، اعتبر الرؤساء الأميركيون المتعاقبون جهود إيران لإظهار القوة بمثابة تهديد، واعتبرت طهران بدورها ردود فعل واشنطن على القدر نفسه من التهديد. ودفع كلٌّ منهما الآخر نحو تطويرِ قُدراتٍ أكبر، وهو ما استجاب له كلٌّ منهما من خلال زيادة قوّته العسكرية في المنطقة. كما زاد العمل السرّي. وليس من المستغرب أن الولايات المتحدة صارت منشغلة بالتهديدات المقبلة من إيران، وأصبحت إيران بدورها منشغلة بالتهديدات الآتية من الولايات المتحدة.
استجابت إيران لهذه التحدّيات من خلالِ تطويرِ مجموعةٍ مَرِنة وقوية وديناميكية من الأدوات المُصمَّمة لتخفيفِ آثارِ الضَغطِ الأميركي. وإدراكًا منها أنها لا تستطيع الإنتصار في حربٍ تقليدية مع الولايات المتحدة، استثمرت إيران في تطوير منظماتها شبه العسكرية وإنشاء وتدريب وإمداد الجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة. كما قامت إيران ببناءِ وجودٍ استخباراتي كبير في الخارج قادرٍ على تخريب البنية التحتية المحلية ودعم حركات المعارضة الإقليمية. لقد استثمرت طهران في برامج الصواريخ والطائرات المُسيّرة ذات القدرة العالية، وشنَّ جواسيسها حربًا إلكترونية على أنظمة الدول المجاورة. إنَّ الجهودَ النووية التي تبذلها إيران هي سلاحٌ آخر في ترسانتها، وتقومُ طهران بتسريعِ برنامجها وإبطائه وحتى التخلّي عنه في بعض الأحيان استجابةً للظروف المتغيِّرة. هذه الاستجابات كلّها مَرِنة بطبيعتها. وتتحقّق إيران باستمرارٍ من الأفعال التي تُثيرُ ردودَ الفعل، وهي تستخدمُ تكتيكاتٍ أكثر إبداعًا للقيام بذلك. وعلى وجه الخصوص، تسعى طهران إلى جعل أفعالها “يُمكِنُ عزوها ولكن يُمكِن إنكارها”، على حدِّ تعبير أحد المحاربين القدامى السابقين في عمليات وكالة المخابرات المركزية، وبالتالي تزرعُ ما يكفي من الارتباك لمنع الرد الفوري من الدول المُستَهدَفة أو حلفائها الغربيين. لكن إيران تعتمد أيضًا على تنوّعِ أدواتها وتشتّتها لجعل خصومها يتردّدون في الردّ بشكلٍ مباشر.
إن جيران إيران جميعهم يقعون في مرمى صواريخها. في البداية، وَلّدَ ذلك لامبالاة تجاه برنامج طهران النووي. في الواقع، قبل أكثر من عقد من الزمان، لوّحَ وزير الخارجية الكويتي سرًا بمخاوف بلاده بشأن احتمال حصول إيران على سلاح نووي، مُتسائلًا: “إذا كان لديهم أصلًا مسدسٌ مُصَوَّبٌ إلى رأسك، فما أهمية أن يوجهوا مدفعًا نحو ظهرك؟”. لا يزال جيران إيران يشكّون في قدرتهم على الضغط على طهران لحملها على التصرّف بشكلٍ أفضل. في آب (أغسطس) 2022، أعادت الكويت والإمارات العربية المتحدة العلاقات الديبلوماسية مع إيران؛ وتبعتهما المملكة العربية السعودية بعد تسعة أشهر. وقال مسؤولون كويتيون وإماراتيون سرًا إنهم فعلوا ذلك لأنهم اعتقدوا أنَّ العلاقات الديبلوماسية ستَخلُقُ المزيدَ من القدرة على التنبّؤ في علاقاتهم مع إيران، وليس لأنهم يعتقدون أنَّ العلاقات الجيدة مع إيران مُمكِنة.
أوقفها!
عند السعي إلى ردع التهديدات الإيرانية، فإنَّ مهمة الولايات المتحدة وحلفائها لا تختلفُ كثيرًا عن المهمة التي واجهوها في ردع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. يومها، كان الهدفُ ببساطة هو إقناع السوفيات بعدم التصرّف بطريقةٍ مُحدَّدة. وعلى النقيض من ذلك، يتصرّفُ الإيرانيون بمجموعٍة من الطُرقِ المتطوِّرة، سواء بشكلٍ مُباشَر أو غير مباشر. إن إجبارهم على وقف جميع أعمالهم الخبيثة، في مواقع متعددة، باستخدام أدواتٍ مُتعددة، هو لعبة “إجتزّ الخلد”. يصبح التحدّي أكثر صعوبة بسبب مَيلِ واشنطن إلى إسقاط افتراضاتها الخاصة بشأن إيران وافتراض أنها تتفهَّمُ العقلية الإيرانية. لقد أثبتت الأحداث أنَّ هذا الاعتقاد خاطئٌ بشكلٍ خطير. على سبيل المثال، عمل صنّاع السياسات في الولايات المتحدة منذ فترةٍ طويلةٍ على افتراضِ أنَّ إيران لا تريد أن تخضعَ للعقوبات. ومع ذلك، فقد اتُهمَ العديدُ من أقوى الشخصيات في البلاد وعائلاتهم –بمَن فيهم وزير النفط السابق رستم قاسمي ومستشار الأمن القومي السابق علي شمخاني- بالتورّط بشكلٍ عميق في شبكات التهريب. وتكمنُ ربحية أنشطتهم على وجه التحديد في إدامة العقوبات. تُعتبَرُ الفيلّات الفخمة والسيارات الرياضية الفاخرة في “لافاسان”، وهي مدينة تقع على بُعدِ 30 دقيقة فقط شمال شرق طهران، بمثابةِ تكريمٍ لمدى نجاح بعض الإيرانيين الأقوياء في ظل نظام العقوبات الأميركية. وليس من الصحيح أيضًا الافتراض أنَّ إيران تخشى مواجهة عسكرية محدودة. لم تكن إيران مُبالية بالخسائر العسكرية في حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت تُرسِلُ باستمرارٍ موجاتٍ من القوات سيئة التدريب إلى المعركة لجذب النيران العراقية وتفجير الألغام الأرضية. وعلى الرُغم من أن العديد من القادة الإيرانيين توصّلوا إلى أنَّ هذا التكتيك كان إسرافًا ومُدمّرًا، إلّا أنَّ طهران ظلّت على الرُغمِ من ذلك على استعدادٍ للمُخاطَرة بحياةِ جنودها، حتى عندما لا تكون المصالح الاستراتيجية للبلاد على المحكّ بشكلٍ مباشر. وفي الآونة الأخيرة، فقدت إيران مئات إن لم يكن الآلاف من جنودها في سوريا، على الرُغم من خدمتهم المزعومة في دورٍ استشاري.
والولايات المتحدة هي أيضًا جُزءٌ من المشكلة. إنَّ التعقيدَ والتنوّعَ في التصرّفاتِ الإيرانية التي تعتبرها واشنطن مُهينة يجعل من الصعب تطوير إجماع سياسي في الولايات المتحدة لتقليل الضغوط على إيران. وبينما يبدو أن الخطاب الأميركي بشأن إيران قد أصبح أكثر تصادمية، فإنَّ قناعةَ طهران تزدادُ قوة بأنَّ العداءَ الأميركي إمّا ثابتٌ أو متزايد – وبالتالي لا مفرَّ منه. ونتيجةً لذلك، قرّرت القيادة الإيرانية أنَّ خيارها الوحيد هو الاستثمار بشكلٍ أكبر في ما أسماه أحد الباحثين الإيرانيين “أدوات الردع الإيرانية”، سعيًا إلى إقناعِ واشنطن بأنَّ تكاليفَ الصراعِ المُباشر ستكون مُرتَفعةً للغاية بحيث لا يمكن تصوّرها. والوسيلة الرئيسة لتحقيق هذه الغاية تتلخّص في برنامج الصواريخ الإيراني وشبكة الميليشيات المتحالفة مع طهران، أو ما يسمى بمحور المقاومة الذي يمتدُّ عبر العراق، ولبنان، واليمن، والأراضي الفلسطينية. وقد تجلّى مدى تعقيد وفائدة ترسانة طهران في سلسلةٍ من الضربات على منشآت النفط السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019. وفي الوقت نفسه، أصبح مدى وصول وكلائها واضحًا في أعقاب هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، حيث أدّت هجمات الحوثيين على الشحن في البحر الأحمر إلى الضغط على التجارة العالمية، ويهدّدُ “حزب الله” الحدود الشمالية لإسرائيل، وتهاجم الجماعات الوكيلة في العراق وسوريا القوات الأميركية المنتشرة لمنع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية” (أو داعش).
على الرُغمِ من أنَّ الولايات المتحدة امتنعت عن شنِّ ضرباتٍ مباشرة على إيران، إلّا أنَّ البعضَ في الكونغرس، بما في ذلك عضوان في مجلس الشيوخ الأميركي، توم كوتون، الجمهوري من أركنساس، وليندسي غراهام، الجمهوري من كارولينا الجنوبية، يجادلُ بأنَّ أيَّ استراتيجية لا تنطوي على هجماتٍ عسكرية على الأراضي الإيرانية محكومٌ عليه بالفشل. وأعلن غراهام أخيرًا أنَّ “الشيءَ الوحيد الذي يفهمه النظام الإيراني هو القوة. وإلى أن يدفع الإيرانيون ثمن بنيتهم التحتية وأفرادهم، فإنَّ الهجمات على القوات الأميركية ستستمر”. وأضاف أن الحل هو “ضرب إيران الآن”. “إضربهم بقوة”. وهذا من شأنه، على أقل تقدير، أن يُخاطِرَ بحربٍ إقليمية واسعة النطاق تطلق فيها إيران العنان للقوة الكاملة لـ”أدوات الردع”، مما يهدد بشكل خطير حلفاء الولايات المتحدة وعشرات الآلاف من القوات الأميركية في المنطقة. وقد يتطلّب الأمرُ أيضًا من الولايات المتحدة خوض عملية عسكرية مستمرة أخرى في الشرق الأوسط في وقتٍ يتّجه اهتمام واشنطن بشكلٍ متزايد إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وكانت الإدارات السابقة حريصةً على عدم تجاوز هذا الخط. وحتى اغتيال إدارة ترامب في كانون الثاني (يناير) 2020 لقائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، حدث على الأراضي العراقية، وليس في إيران. وعلى الرُغم من أنَّ هذا قد يكون نتيجةً للوجستيات أو معلومات استخباراتية، فإنه يُظهرُ أيضًا إحجام واشنطن عن العمل على الأراضي الإيرانية.
لا حرب، ولكن لا سلام
حققت استراتيجية واشنطن نجاحًا ملحوظًا: فقد نجحت بشكلٍ واضح في رَدعِ إيران عن التصعيد. أنهى وكلاء إيران جهودهم لاستهداف المنشآت الأميركية منذ أن قتلت طائرة مُسَيَّرة مرتبطة بالقوات الموالية لإيران ثلاثة جنود أميركيين في شمال الأردن في 28 كانون الثاني (يناير). وبعد الهجوم، قصفت الطائرات الحربية الأميركية منشآت الجماعات المدعومة من إيران في العراق وسوريا، مما أسفر عن مقتل حوالي 45 شخصًا. إنَّ قدرة واشنطن واستعدادها لتدمير مجموعة واسعة من الأهداف بشكلٍ حاسمٍ أقنعت الإيرانيين بإنهاء هجماتهم على المواقع الأميركية، على الأقل في الوقت الحالي. لكن الولايات المتحدة لم تنجح في إرغام إيران على التراجع عن استخدام أدواتها غير المُتماثلة.
يمكن أن يُعزى هذا الفشل العام إلى التفاوتات بين الولايات المتحدة وإيران. إن أميركا قوة عالمية ثرية لها أصول ومصالح في كل مكان. ولديها اهتمام كبير بالحفاظ على النظام العالمي، الأمر الذي ليس من قبيل المصادفة أن يجعلَ واشنطن في موقعٍ عالمي قيادي. وعلى النقيض من ذلك، أصبحت الحكومة الإيرانية معتادة على الحرمان والافتقار إلى التنمية، ولديها القليل نسبيًا في الخارج وهي عازمة على الحفاظ عليه. مصلحتها هي تخريب النظام العالمي، وهو ما تفعله مع وضع شيئين في الاعتبار: معرفة أنَّ مصلحة الولايات المتحدة في الحفاظ على هذا النظام ستجعلها تتصرف بشكلٍ مُتحفّظ وضمن حدود القانون الدولي، وأنَّ الاحتجاجات الإيرانية ضد النظام العالمي ستحظى بتعاطف الحكومات ومليارات الأفراد الذين يعترضون عليه. ولهذا السبب، منذ توليه منصبه في آب (أغسطس) 2021، تخلّى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عن التقارب مع الولايات المتحدة وركّزَ بدلًا من ذلك على مهاجمة الوضع الراهن العالمي. ولتحقيق هذه الغاية، أقامت إيران علاقات أوثق مع الصين وروسيا، اللتين لديهما مصالحهما الخاصة في تقليص الهيمنة الأميركية ويسعدهما دعم جهود إيران بهدوء. فالوقت في صالح طهران. لقد تعلمت إيران التكيّف مع الجهود الأميركية لعزلها، وقد تعززت قيادتها الحالية واغتنت بفضل معظم العقوبات الأميركية.
الانتصارات الصغيرة لا تزال انتصارات
تستطيعُ واشنطن إدارة مشكلة إيران باستخدامِ نهجٍ ثُلاثي المحاور. أوّلًا، يجب على الولايات المتحدة أن تُعطي الأولوية لأهدافها مع إيران بشكل صارم. وعلى الرُغم من أنَّ واشنطن لا ينبغي أن تكون مُستَعِدّة لقبولِ جميعِ أنواعِ سوءِ السلوكِ الإيراني، إلّا أنّهُ ينبغي لطهران أن يكونَ لديها فَهمٌ واضِحٌ لما هو الأكثر أهمية بالنسبة إلى واشنطن. إنَّ القائمة الطويلة جدًا تدعو الإيرانيين إلى الانتقاء والاختيار، ويجب على الولايات المتحدة أن تكون هي مَن يقومُ بالانتقاء والاختيار. يجب أن تظلَّ الهجمات المباشرة على الأفراد الأميركيين محظورة، وكذلك تطوير الأسلحة النووية. لكن لا ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى إلى أن تكون الخصم الرئيس للأنشطة الدولية غير القانونية التي لا تُعَدّ ولا تُحصى التي تمارسها إيران، بما في ذلك التهريب والأعمال العدائية ضد الدول المجاورة. وبدلًا من ذلك، ينبغي على واشنطن أن تعمل على المساعدة في بناء قدرات الدول الصديقة في المنطقة للردِّ على إيران.
ثانيًا، يجب على الولايات المتحدة أن تكون أقل قابلية للتنبؤ بردودها على التصرّفات الإيرانية. ولأنَّ طهران تختبرُ باستمرارِ ردود الفعل الأميركية، فهي تعرف أين تم رسم خطوط واشنطن الحمراء، وبالتالي، على وجه التحديد أين يجب أن تتوقف. ومن شأن النهج الأميركي الأكثر مرونة أن يساعدَ على إقناع الإيرانيين بأنَّ الأنشطة ذات المستوى المُنخَفض يمكن أن تكون لها تكاليف أعلى من المتوقع؛ وهذا بدوره من شأنه أن يُقلّلَ من التجارب الإيرانية ويدفع الإيرانيين إلى ممارسة المزيد من ضبط النفس. تحتاج الولايات المتحدة إلى تطوير المزيد من الطرق لتهديدِ أصول الحكومة الإيرانية، وبخاصة الأهداف العسكرية والاستخباراتية. ويجب أن تشمل خيارات الولايات المتحدة عملًا عسكريًا محدودًا وهجمات إلكترونية.
ثالثًا، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تُدرِكَ أنَّ موقفها قد أصبح أقوى عندما تعتقدُ طهران أنَّ هناكَ احتمالًا لتسويةٍ أكبر مع واشنطن. عندما يعتقد قادة إيران أنه لا يوجدُ أيُّ إجراءٍ يمكنهم اتخاذه لتخفيف العداء الأميركي، فإنَّ ذلك يشجعهم على سوء التصرّف. علاوة على ذلك، إذا كانت العقوبة لا مفرَّ منها، فإن زيادة الأنشطة العدائية الإيرانية لا تحملُ أيَّ خطرٍ هامشي. وإذا اعتقدت طهران أنَّ واشنطن مُستَعدّة لاستيعابها، فسيتم تحفيزها للحدّ من التوترات. ينبغي أن يكون الهدف أقرب إلى الانفراج منه إلى التقارب. وكلما اعتقدت طهران أنَّ صراعها مع واشنطن صراعٌ وجودي، زادت التزامها بأدوات الردع الخاصة بها. وكلما نظرت الولايات المتحدة إلى إيران بشكل أكثر واقعية، كانت أكثر تواضعًا بشأن قدرتها على تعزيز انهيار الحكومة الإيرانية، ناهيك عن ضمان ظهور حكومة أكثر ملاءمة لمصالح الولايات المتحدة. وقد تقع الحكومة الإيرانية تحت ثقل مشاكلها، وقد يفيد ذلك المصالح الأميركية. لكن تغيير النظام في إيران لا ينبغي أن يكون هدفًا للحكومة الأميركية. لا يزال الدعم الأميركي والبريطاني للإطاحة بحكومة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في العام 1953 يُذكَرُ في إيران باعتباره لحظة إذلال وطني. وحتى إسقاط نظام لا يحظى بشعبية من غير المرجح أن يُكسِب الولايات المتحدة العديد من الأصدقاء.
تتمتع القوى الأضعف مثل إيران بميزةٍ على القوى التي تفوق حجمها مرات عدة. نظرًا لأنَّ لديها عددًا محدودًا من الخصوم ولديها كل شيء لتخسره، فإنها غالبًا ما تكون أكثر تحفيزًا من خصومها الأقوياء. ومع ذلك، لأنها أضعف، نادرًا ما تفوز. ومن غير المرجح أيضًا تحقيق فوز شامل للولايات المتحدة، التي لديها مصالح عالمية وأولويات أخرى لا تُعَد ولا تُحصى، ما يعني أن سلسلةً من الانتصارات الصغيرة في أهم القضايا هي الهدف الصحيح. إنَّ المزيدَ من تقييد تصرّفات إيران وإدخال المزيد من القدرة على التنبؤ في الشرق الأوسط سيكون بمثابة تحسّنٍ كبير. لقد تعلّمت إيران أن تلعبَ اللعبة الحالية بشكلٍ جيد، وهي تُدركُ مزاياها. على الرُغم من أنَّ الولايات المتحدة لا تستطيع محو جميع الظروف التي تصبُّ في صالح إيران، إلّا أنها تستطيع العمل على تسويةِ ساحة المعركة مع إيران، وتعزيز أمن شركاء الولايات المتحدة وحلفائها، وتقليل احتمال نشوب صراع أميركي-إيراني يؤجّجُ الشرق الأوسط بأكمله.
- جون ألترمان هو نائب الرئيس الأول ومدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالآنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.