الولايات المتحدة تُواجهُ أزمةَ ثقة في وقتٍ سيِّئٍ للغاية
بول بوست*
في خطابٍ ألقاهُ أمامَ جلسةٍ مُشتَرَكة للكونغرس الأميركي أثناء زيارته لواشنطن في أوائل هذا الشهر، قَدَّمَ رئيس الوزراء الياباني كيشيدا فوميو تشخيصه لما تُعاني منه الولايات المتحدة على وَجهِ التحديد عندما يتعلّقُ الأمرُ بدورها القيادي العالمي. قال كيشيدا للمُشَرِّعين المُجتَمِعين: “إنَّ العالمَ يحتاجُ إلى أميركا لمُواصَلَةِ لُعبِ هذا الدور المحوري في شؤون الأمم. مع ذلك، وبينما نجتمع هنا اليوم، فإنني أكتشفُ وجودَ تيّارٍ خفيٍّ من الشكِّ الذاتي بين بعض الأميركيين حول الدور الذي ينبغي أن يكونَ لكم في العالم”.
في بعض النواحي، بدا كيشيدا وكأنّهُ يُرَدّدُ ببساطة تصريحاتٍ مُماثلة تدعو إلى “تردّدِ” الولايات المتحدة في تولّي زمام المبادرة على المسرح العالمي، كما وَصف ذلك أخيرًا الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي أَندِرس فوغ راسموسن. وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بدوره دعا مرارًا وتكرارًا أميركا إلى عدم الخجل من العملِ كداعمةٍ للديموقراطيات العالمية التي تواجِهُ العدوانَ الاستبدادي، بما في ذلك في خطابه أمامَ جلسةٍ مُشتَرَكة للكونغرس.
على هذا النحو، يُمكِنُ اعتبارُ تصريحاتِ كيشيدا تكرارَ الشيء نفسه: القلقُ بشأنِ انسحاب الولايات المتحدة من العالم وتراجعها إلى موقفٍ أكثر انعزالية، كما فعلت في كثير من الأحيان في الماضي. لكن سماع مثل هذا الكلام من زيلينسكي ومسؤولين أوروبيين آخرين يعني شيئًا مختلفًا عما يحدثُ عندما تأتي من كيشيدا. تخوضُ أوكرانيا حربَ بقاءٍ ضد دولةٍ كبرى نووية ترى العديد من الدول الأوروبية أنها تُشَكّلُ أيضًا تهديدًا وجوديًا لها، وهي بحاجةٍ إلى مساعدة الولايات المتحدة إذا أرادت الانتصار في تلك المعركة. اليابان ليست كذلك.
لكي نكونَ واضحين، إنَّ اليابان لديها مخاوف أمنية، ولمواجهتها ومعالجتها فهي تعتمدُ على الولايات المتحدة. ورُغمَ أنها ليست بالحدّة نفسها للعدوان الروسي المُستَمِرِّ على أوكرانيا، فإنَّ المسؤولين اليابانيين يشعرون بالقلق إزاءَ تزايُدِ عدوانية الصين، وخصوصًا في ما يتعلق بتايوان. هناكَ أسبابٌ تدعو للشك في نِيّةِ الصين وجدوى نجاحها في غزو تايوان. لكنَّ القلقَ مع ذلك حقيقي. إذا سقطت تايوان، فهل يُمكِنُ أن تكونَ الأراضي اليابانية هي التالية؟ أم هل ستكون الأراضي اليابانية ــمثل جزر “سينكاكو” المُتنازَع عليها، والتي تُطالب بها الصين باسم “دياويو”ــ هي الأولى؟ كانت الاشتباكات العدوانية الأخيرة بين الصين والسفن البحرية الفلبينية في بحر الصين الجنوبي سببًا في تفاقُمِ هذه المخاوف.
لكن في الوَقتِ نفسه، بدا أن كيشيدا كانَ يستغلُّ الفرصة والمناسبة للاستفادة من “العلاقة الخاصة” بين الولايات المتحدة واليابان للتحدّثِ نيابةً عن أولئك الذين لديهم صوتٌ أقلّ أو قدرةٌ أقلّ على الوصول إلى مجتمع السياسة الأميركية. وبينما يتحدّثُ الكثيرون عن وجودِ علاقة خاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، فإن العلاقة بين واشنطن وطوكيو أصبحت أقوى من نواحٍ عديدة. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك توتّرات، خصوصًا في مجال التجارة. ولكن، كونها مُشتريًا ثابتًا للديون الأميركية، وتوفّرُ قاعدةً موثوقةً للقوات الأميركية في منطقةٍ حرجة، تُعَدُّ اليابان اليوم صديقًا وشريكًا وحليفًا وثيقًا للولايات المتحدة.
لقد تطلّبت هذه العلاقة عملًا حثيثًا وطويلًا. خلال الإدارة المُضطَرِبة للرئيس السابق دونالد ترامب، حرص رئيس الوزراء آنذاك آبي شينزو على التأكّدِ من أنَّ ترامب، على الرُغم من ميوله غير الدولية والانعزالية المبنية على “أميركا أوّلًا”، يرى اليابان كحليفٍ رئيس يستحقُّ الدعم. لقد كان ذلك من نواحٍ عديدة الإنجاز الرئيس لآبي في السياسة الخارجية.
إنَّ المردودَ من كلِّ هذه الجهود للحفاظ على العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان هو أنَّ الكلام نفسه الآتي من كيشيدا سيكونُ له وزنٌ أكبر مما سيكون عليه إذا أتى من زيلينسكي. لقد وجدَ خبراء العلاقات الدولية أنَّ الإلتماسَ الآتي من الأصدقاء المُقرَّبين من المُرَجّحِ أن يؤدّي إلى ردِّ فعلٍ إيجابي من الدولة أكثر من التعرّضِ للانتقاد من قبل المنافسين – أو من قبل أولئك الذين هم في أمسِّ الحاجة إلى المساعدة، مثل أوكرانيا. ولا يقلُّ أهمية عن كَونِ كيشيدا مَصدَرَ الالتماس هو اختياره للكلمات. يُشيرُ “الشك في الذات” إلى أنّهُ على الرُغمِ من رغبةِ الولايات المتحدة في اتخاذِ الإجراءات اللازمة، فإنّها تشعرُ بالقلقِ من عدم قدرتها على القيام بذلك بشكلٍ فعّال. من هنا، بدلًا من إرغامِ الكونغرس على التحرّك، يدعوه كيشيدا إلى ضمان تحوّلِ الولايات المتحدة إلى نسخةٍ أفضل من نفسها.
يشيرُ علمُ النفس العكسي هذا إلى نقطةٍ مفاهيمية عميقة، لا تحظى بالتقدير الكافي من قبل خبراء العلاقات الدولية وصنّاع السياسات على حدٍّ سواء: إنَّ القوّة الكبرى التي ترغبُ في تشكيلِ النظام الدولي -أي دولة مُهَيمِنة- يجب أن تتمتّعَ بالقدرةِ المادية اللازمة لإبرازِ النفوذِ العسكري والاقتصادي في الخارج. ويجب عليها أيضًا أن تستفيدَ من الظروفِ السياسية الداخلية التي تجعلُ صنّاعَ القرارِ الرئيسيين في السياسة الخارجية على استعدادٍ لاستعراضِ قوّتهم في الخارج. لكنَّ الدولةَ المُهَيمِنة يتطلّبُ منها أيضًا أن تملكَ الثقة في قدرتها على إنجاز المهمة فعليًا. يُمكِنُ أن يؤدّي انعدامُ الثقة إلى ضبطِ النفس بسبب الخوف، بدلًا من ضَبطِ النفس كموقفٍ مبدئي.
بعبارةٍ أُخرى، إنَّ الأمرَ يختلفُ إذا لم تكن لدى الدولة القدرة المادية على اتخاذِ إجراءٍ مُعَيَّنٍ في الخارج، أو إذا كان صُنَّاعُ القرارِ الرئيسيون فيها لا يرونَ أنَّ هذا الإجراءَ يصبُّ في مصلحتهم السياسية أو في المصلحةِ الوطنية الكبرى. والأمرُ الآخر هو أن تتمتّعَ الدولة بالقدرةِ على اتخاذِ هذا الإجراء والرغبة في القيام بذلك، ولكن تتساءل عمّا إذا كانت ستنجح في نهايةِ المطاف. وتتناولُ تصريحات كيشيدا هذا الشرط الأخير. ومن خلال لفت الانتباه إلى شكوكِ واشنطن الذاتية، كان يدعو الولايات المتحدة في الأساس إلى عدمِ الخوفِ من القيادة.
لقد واجهت الولايات المتحدة فتراتٍ من الشكِّ الذاتي من قبل، وهو ما عبّرَت عنهُ فكرة “مُتلازمة فيتنام”. أثارت هزيمة أميركا في حرب فيتنام، والتي جاءت في أعقابِ الجمود في الحرب الكورية، شكوكًا خطيرة في جميع أنحاء المجتمع الأميركي، من الجمهور إلى المسؤولين العسكريين أنفسهم، حول قدرة الأمّة على استخدام القوّة بشكلٍ فعّال. وفي حين يبدو أنَّ هذه الشكوك قد تبدّدت بعد النجاحِ المذهل الذي حقّقتهُ حربُ الخليج في العام 1991، فإنّها عادت بعد عشرين عامًا من “الحروب الأبدية” في العراق وأفغانستان، وبلغت ذروتها بالانسحاب الكارثي من كابول في آب (أغسطس) 2021.
من المُسَلَّمِ به أنَّ الشكَّ الذاتي يأتي بفائدةٍ كبيرة: الحذر. ومن المعروف أنَّ الثقةَ المُفرِطة يُمكِنُ أن تقودَ الدولة إلى الحرب. ويالتالي، فمن المنطقي أن يؤدّي انعدامُ الثقة إلى التردّدِ في استخدامِ القوة، وبالتالي المُساهَمة في وَقفِ التصعيد.
لكن عندما يتعلّقُ الأمرُ بالقضايا التي تهمُّ اليابان والجهات الفاعلة التي تتحدّث باسمها، فإنَّ الحذرَ والسلبية ليسا في محلّهما. يريد كيشيدا أن تكونَ لدى صنّاع السياسات في الولايات المتحدة ثقةٌ في قُدرَةِ بلادهم على رَدعِ عدوان الصين تجاه جيرانها؛ وتمويلُ الجهود لوقف روسيا في أوكرانيا؛ ومكافحةُ “حماس” والحوثيين و”حزب الله” –إلى جانب إيران نفسها– في الشرق الأوسط؛ ومعالجةُ عددٍ لا يُحصى من الصراعات والأزمات الأخرى في جميع أنحاء العالم. ولهذا السبب دعا أعضاء الكونغرس إلى وَضعِ شكوكهم جانبًا.
وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ الولايات المتحدة يُمكِنُها أو ينبغي لها أن تفعل كل هذه الأشياء في وقتٍ واحد. إلّا أنَّ عدمَ القيامِ بذلك بدافِعِ الخوف يُعادِلُ التخلّي عن ادّعائها القيادة.
- بول بوست هو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.