تركيا والولايات المتحدة: رسائل الـ”أف-16″

محمّد قوّاص*

مَن يُراقِبُ بعضَ ضيوفِ الفضائيات الأتراك سيُلاحِظ بسهولةٍ الحملة المُرَكَّزة التي يشنّها مُقَرَّبون من “حزب العدالة والتنمية” الحاكم ضد الولايات المتحدة. ولأَمرِ الانتقادات علاقةٌ بموقفِ واشنطن من “الحالة الكردية” شمال شرق سوريا. غير أن التعبئةَ المُعادية لأميركا قد تكون من عدّة الشغل داخل حملة الانتخابات التي ستجري في حزيران (يونيو) 2023.

وحتى الآن تمكّنت تركيا، في ظل الرئيس رجب طيّب إردوغان، من إدارة موقعها بين أطلسيةٍ حليفةٍ للغرب والولايات المتحدة من جهة وعلاقاتٍ وَثيقةٍ ومُتطورةٍ مع روسيا والصين من جهة أخرى. ولم تهضم واشنطن وحلفاؤها حتى الآن أن تقوم تركيا، وهي عضوٌ في حلف شمال الأطلسي، باقتناء منظومة”أس-400″ (S-400) الصاروخية الروسية الصنع والمُصَمَّمة أساسًا لمواجهة الأخطار الجوية الغربية.

يستنتجُ المُراقِبُ مع ذلك حرصَ تركيا على عدم مغادرة حلفها التاريخي مع كلِّ المنظومة الغربية. وسيُلاحظ أيضًا أن أوروبا والولايات المتحدة والدول الأعضاء في الحلف الأطلسي متمسّكة من جهّتها بأن لا تغادر تركيا المراكب الغربية ضمن الموازين الجيوستراتيجية الدولية، وساعيةً إلى إدارة العلاقات مع أنقرة على نحوٍ يضع قواعد ومعايير لا تسمح لأنقرة بالمبالغة في شططها من دون أن يتضرّرَ موقعها داخل خرائط الحلف الغربي.

تلعب تركيا برشاقة داخل هامشٍ مُتاحٍ ما بين غربٍ وشرق. لكنها في العلاقات مع روسيا تستفيد أيضًا من ترف القبول بها وسيطًا نجح في إبرام “اتفاقية الحبوب” بين روسيا وأوكرانيا. قبلت موسكو هذه الوساطة على الرُغمِ من أن تركيا ليست طرفًا مُحايدًا. تبيع أنقرة مُسَيَّرات “بيرقدار” التركية الصنع إلى كييف وتساهم من خلال ذلك بجهدٍ عسكريٍّ مُعادٍ للقوات الروسية في أوكرانيا. وإذا ما اشتكت تركيا من غيابِ موقفٍ أميركيٍّ داعمٍ في حربها ضد “الإرهاب الكردي” شمال سوريا، فإن تقرّبها من موسكو في هذا الملف لا يُمكِنُ إلّا أن يبعثَ برسائل تحدٍّ ضد واشنطن.

تطوّرت علاقات تركيا بروسيا وإيران والصين بشكل مضطرد. إلا أن إردوغان لم يذهب باتجاه الانتقال من ضفّةٍ إلى أخرى في موسم الصراع الدولي بين غربٍ وشرق. ولم يُسجَّل للرئيس التركي تهديدٌ بهذا الشأن، لا بل إن إصرار تركيا على اقتناء مقاتلات من طراز”أف-16″ (F-16) الأميركية يؤكد ثبات الهوية العسكرية لسلاح الجيش التركي وغياب أي خطط للتخلّي عن العلاقة العضوية الدفاعية بالولايات المتحدة وحلف “الناتو”.

تقدّمت تركيا إلى الولايات المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 بطلبٍ لشراء 40 مقاتلة من طراز”أف-16″ التي تصنعها شركة لوكهيد مارتن. واللافت أن اكتفاء تركيا بهذا الطراز يطوي إلى أجل طويل إمكانات اقتناء مقاتلات من طراز”أف-35″ ( F-35) بعد أن قرّرت واشنطن منع بيع هذا الطراز إلى أنقرة واستبعاد تركيا من الشراكة في برامج تصنيعها.

بمعنى آخر تُعاقبُ واشنطن أنقرة في هذا الصدد بسبب قضية منظومة “أس-400″ الصاروخية الروسية، فتقبل تركيا الأمر وتطلب طرازًا بديلًا. بالمقابل فإن اقتناء تركيا لمنظومة صواريخ تصنعها روسيا لا يمنع الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس الديموقراطي جو بايدن من الموافقة على مبدَإِ بيع أنقرة مقاتلات ال”أف-16” بعد موافقة الكونغرس طبعًا.

كان الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب قد تفهّمَ موقف تركيا في موضوع اقتناء منظومة الصواريخ الروسية. اتهم إدارة باراك أوباما بدفع تركيا نحو هذا الخيار بعد رفض بيعها منظومة باتريوت الأميركية. غير أن موقف واشنطن بقيّ مُشَكِّكًا بدوافع تركيا حَذِرًا في الموافقة على عقود التسلّح معها.

تتراكم ملفات النزاع بين أنقرة وواشنطن خصوصًا في مسألة الحرب ضد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في سوريا والتي تعتبرها الولايات المتحدة حليفًا فاعلًا وموثوًقا في محاربة “داعش”. انتقدت واشنطن أخيرًا مسار تطبيع العلاقات الجاري حاليًّا بين أنقرة ودمشق برعاية موسكو. وعلى الرغم مما يُظهره بعض حملات التعبئة في تركيا ضد الولايات المتحدة، إلّا أنَّ زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى واشنطن الأسبوع المقبل، تكشف حرصًا تركيًّا على تدوير زوايا الخلافات وتحرّي تسوياتٍ تُخفّفُ من الاحتقان في علاقات البلدين.

قد تكون موافقة إدارة بايدن على الاستجابة لطلب تركيا شراء مقاتلات “أف-16” عاملًا تودُّ واشنطن من خلاله تخفيف حدّة الخلافات مع تركيا. لكن موقف الكونغرس قد يكون عائقًا دون ذلك، خصوصًا أن السيناتور الديموقراطي، بوب مينينديز، الذي يرأس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، يُعارض بشدّة الاقتراح، الأمر الذي يطرح أسئلة بشأن تناقض موافقة إدارة ديموقراطية على الطلب التركي مقابل رفض مُشرّعٍ ديموقراطي مهم له.

اتّهمَ مينينديز في بيانٍ الرفض الرئيس التركي بتجاهل حقوق الإنسان والمعايير الديموقراطية والانخراط في “سلوكٍ مُزعِجٍ ومُزَعزِعٍ للاستقرار في تركيا ومُناوِئٍ لدول مجاورة من أعضاء حلف الأطلسي”. يستبطنُ هذا الكلام شرطًا جوهريًّا قد لا تهمّه القضايا الحقوقية، بل يجد في المناسبة ورقة للضغط على أنقرة لنزع اعتراضها على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو. تركيا قرأت الرسالة وقد تدّعي عدم فهمها لأجل طويل.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى