الحربُ بين إسرائيل و”حماس” تُهَدِّدُ تَطويرَ الغازِ في شَرقِ البَحرِ الأبيض المتوسط
من المرجح أن تكون للحرب في غزة عواقب طويلة المدى على التطوير المستقبلي لحقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.
هاني مكارم*
بالإضافة إلى التكلفة البشرية للحرب في غزة بين إسرائيل وحركة “حماس”، يَفرُضُ الصراعُ أيضًا تحدّياتٍ واضحة على نظام الطاقة الإقليمي الذي نشأ في شرق البحر الأبيض المتوسط على مدى العقد الفائت. في ذلك الوقت، كانت مياه شرق البحر الأبيض المتوسط بمثابة مَرتَعٍ لتطوير الغاز البحري. بدأت الشركات الغربية الكبرى في استخراج وتصدير الغاز الطبيعي من الحقول المُكتَشَفة قبالة إسرائيل ومصر. وتمَّ اكتشافُ الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، رُغمَ أنه لم يتم استغلاله بعد. وبدأ لبنان التنقيب عن الغاز على حدوده البحرية المُتَّفَق عليها أخيرًا مع إسرائيل، رُغم أن هذه الجهود لم تنجح حتى الآن.
في الوقت نفسه، ساهمت عائدات الغاز في دفع التنمية الاقتصادية في البلدان التي بدأت في استغلال احتياطاتها. كما ساهم تطوير هذه المجالات في توسيع نطاق التعاون دون الإقليمي، وخصوصًا بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان. في حين أنَّ الغازَ الطبيعي المسال من شرق البحر الأبيض المتوسط لا يُشكّلُ حتى الآن جُزءًا مهمًا جدًا من مزيج الطاقة الأوروبي، إلّا أنه أحد المصادر القليلة المُتَوَقَّع زيادته في السنوات المقبلة: في حزيران (يونيو) 2022، وقعت مصر وإسرائيل مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي لتعزيز صادرات الغاز.
أدّى هجومُ “حماس” على إسرائيل والحرب اللاحقة في غزة إلى تعطيل نظام الطاقة البيئي هذا، ويمكن أن يكون له تأثيرٌ طويل المدى في تطوره وتوسّعه في المستقبل.
التأثيرات المباشرة
كان تأثيرُ هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) في الناتج الإقليمي ملموسًا على الفور. في 9 تشرين الأول (أكتوبر)، أمرت إسرائيل بوقف الإنتاج في حقل غاز “تمار” الذي تديره شركة شيفرون، حيث تقع منصّته قبالة مدينة “أسدود” ضمن مدى الصواريخ من قطاع غزة. ويُزَوِّدُ هذا الحقل، وهو ثاني أكبر حقل في إسرائيل، 70% من احتياجات البلاد من الطاقة المحلية. ومع ذلك، تمَّ تعويض النقص الناجم عن الإغلاق من خلال حقلَي الغاز الإسرائيليين الأخريين، “ليفياثان” و”كاريش”، قبل أن يعود الإنتاج في حقل “تمار” في 9 تشرين الثاني (نوفمبر).
في المقابل، أدّى قطعُ خط “تمار” عن العمل، إلى جانب إغلاق خط الأنابيب المؤدي إلى العريش لأسبابٍ أمنية، إلى التأثير بشدة على إمدادات الغاز في مصر. في العام 2022، استوردت مصر 6.27 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي من إسرائيل، بزيادة 48.5% عن العام 2021، وهذه الكمية تمثل نسبة 10% من إجمالي استهلاك مصر من الغاز الطبيعي. وعلى الرُغم من إعادة فتح خط أنابيب العريش في وقت لاحق في 14 تشرين الثاني (نوفمبر)، إلّا أنَّ الانقطاعَ أدّى إلى زيادة انقطاع التيار الكهربائي المحلي. كما تسبب ذلك في قيام القاهرة بخفض صادراتها من الغاز الطبيعي المسال، والتي كانت تنخفض أصلًا قبل الحرب. وتُعتَبَرُ هذه الصادرات مصدرًا رئيسًا للعملة الأجنبية للقاهرة، والتي تعتمد على الواردات من إسرائيل. وعلى الرغم من أن الغاز الإسرائيلي لا يزال يتدفق إلى مصر عبر الأردن بواسطة خط أنابيب الغاز العربي، إلّا أنَّ صادراته إلى مصر انخفضت بنسبة تزيد على 60% في النصف الأول من تشرين الثاني (نوفمبر). وعلى النقيض من ذلك، لم تتأثر صادرات الغاز الإسرائيلي إلى الأردن، والتي يتم توفيرها من طريق حقل “ليفياتون” وتمثل حوالي 70% من كهرباء الأردن. والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء الأردني الدكتور بشر الخصاونة قال أخيرًا إن صفقة الغاز مع إسرائيل “ليست مطروحة للإلغاء”، على الرُغم من الضغوط الشعبية.
أبعد من ذلك، ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بأكثر من الربع منذ الهجوم الذي وقع في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والذي تزامن مع إغلاق ممتد لخط أنابيب البلطيق الرابط بين فنلندا وإستونيا. ومن الممكن أن يؤثّرَ التوسيع المحتمل للحرب في غزة أيضًا في تكاليف الشحن في قناة السويس. وهذا بدوره سيؤدي إلى رفع أسعار الغاز الطبيعي المسال القطري، الذي أصبح مصدرًا بديلًا مهمًّا للطاقة لأوروبا منذ التوقف التدريجي عن واردات الغاز الروسي بعد غزو أوكرانيا. وإذا انجذبت إيران مباشرة إلى الصراع، فقد يؤدي ذلك أيضًا إلى زيادة المخاطر -وبالتالي التكاليف- بالنسبة إلى سفن الغاز الطبيعي المسال التي تمرّ عبر مضيق هرمز.
التطلّع إلى الأمام
من المُرجّح أيضًا أن تكون للحرب في غزة عواقبٌ طويلة المدى على التطوير المستقبلي لحقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط. في البداية، لدى شركة شيفرون وغيرها من الشركات المُرَخَّص لها لاستغلال حقلَي “تمار” و”ليفياثان” خططُ توسّعٍ كبيرة. ويشمل ذلك خطوط أنابيب إضافية إلى مصر، ولكن أيضًا قنوات تصدير الغاز الطبيعي المسال المحتملة التي لا تعتمد على النقل عبر مصر، مثل مصنع الغاز الطبيعي المسال العائم، لحقل “ليفياثان”. ويمكن لمثل هذه المنصة أيضًا أن تخدمَ حقل “أفروديت” الذي لم يتم تطويره بعد من قبل الشركاء على الحدود البحرية لقبرص مع إسرائيل. البديل الآخر الذي تجري مناقشته هو ربط الحقول الإسرائيلية بمحطةٍ للغاز الطبيعي المُسال قبالة قبرص أو بمنشأةٍ برية للغاز الطبيعي المسال هناك.
مع ذلك، تتطلّبُ هذه الخطط قرارات سياسية واتفاقيات ديبلوماسية بين إسرائيل وقبرص، كما إنّها مُكلِفة وتُمثّلُ تحدّيًا تكنولوجيًا. وكانت هناك بالفعل أسئلة بشأن إقامة منشأة معالجة كبيرة في المياه الإسرائيلية، في ضوء التهديدات الأمنية المحتملة من غزة ولبنان. وفي ضوء الصراع الحالي، من المتوقع أن تكون هذه المخاطر الأمنية أكثر أهمية، بل وربما تجعل مصنع الغاز الطبيعي المسال العائم المتمركز في إسرائيل غير جذاب.
ويمكن أن تؤدي الحرب في غزة أيضًا إلى عرقلة الصفقة التي تمَّ التوصّلُ إليها في وقت سابق من هذا العام لتطوير حقل غاز غزة البحري الصغير الذي يقع على بُعد 18 ميلًا قبالة ساحل غزة. أعلنت إسرائيل في حزيران (يونيو) أنها بدأت التعاون مع مصر والسلطة الفلسطينية في تطوير الحقل من قبل الشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي المملوكة للدولة. ومن المتوقع أن يتم في نهاية المطاف نقل 2 ملياري متر مكعب سنويًا إلى شبكة الغاز المصرية للاستهلاك المحلي والتصدير، بما في ذلك إلى فلسطين. وستتقاسم السلطة الفلسطينية أرباح الصفقة التي لم تُذكَر فيها “حماس”.
قام المُنَسّقُ الرئاسي الأميركي الخاص للبنية التحتية العالمية وأمن الطاقة، عاموس هوشستاين، بزيارة إسرائيل في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) لمناقشة خطط التنشيط الاقتصادي لغزة، بما في ذلك تطوير حقل غزة البحري للغاز. ولكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان من الممكن أن يبدأ التطوير الآن ومتى.
كما عَرَّضَت الحرب بين إسرائيل و”حماس” للخطر أهم صفقة متعلقة بالطاقة مُرتَبِطة باتفاقات أبراهام لعام 2020: العَرضُ غير الملزم الذي قدمته في أذار (مارس) 2023 شركة أدنوك المملوكة لحكومة أبو ظبي وشركة بريتيش بتروليوم للحصول على نصف شركة نيوميد للطاقة الإسرائيلية، التي تمتلك 45 في المئة من حقل “ليفياثان” بالإضافة إلى 30 في المئة من حقل “أفروديت”. ومع ذلك، واجهت هذه الصفقة بالفعل مشاكل، بسبب مطالبة المساهمين زيادة العرض بنسبة 10-12%، والإبلاغ عن مخاوف بشأن حوكمة الشركة وصنع القرار في المستقبل. لقد أدت الحرب الآن إلى تقليل جاذبية الصفقة وألقت المزيد من الشك على فرص تنفيذها وعلى جدولها الزمني إذا حدث ذلك. وبحسب ما ورد يتوقع المسؤولون التنفيذيون في شركة بريتش بتروليوم وأدنوك المزيد من التأخير، لأن إتمام الصفقة أثناء الحرب في غزة، أو في أعقابها مباشرة، يمكن أن يثقل كاهل الشركتين بتكاليف سياسية كبيرة وأخرى تتعلق بالسمعة.
على الرُغم من هذه التحديات، تحاول إسرائيل تقديم موقف “العمل كالمعتاد”، مع بعض النجاح. في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، أعلنت وزارة الطاقة نتائج اثنتين من أربعة عطاءات في جولة المناقصات الأخيرة لتراخيص التنقيب عن الغاز في قطع بحرية جديدة. أربعٌ من الشركات الست المشاركة –شركة بريتيش بتروليوم، وشركة سوكار الأذربيجانية، وشركة إيني الإيطالية، وشركة دانا الكورية الجنوبية– جديدة في السوق الإسرائيلية. وبحسب ما ورد في بعض التقارير الصحافية، من المقرر منح التراخيص، التي مدتها ثلاث سنوات مع إمكانية تمديدها لمدة تصل إلى سبع سنوات، رسميًا في العام 2024، وبحلول ذلك الوقت من المأمول أن يكون الصراع في غزة هدأ وأن تكون الشركات مستعدة وقادرة على البدء بالعمليات. وقبل الإعلان عن نتائج المناقصة، أفادت التقارير أن السلطات الإسرائيلية قامت باستقصاء الفائزين للتأكد من أنهم لا يعتزمون الانسحاب. ومع ذلك، كما أشار متحدث باسم شركة إيني: “من الواضح أن أي اعتبارات تقنية بشأن آفاق وتوقيت الأنشطة سابقة لأوانها”.
ويُسَلِّطُ هذا الأمر الضوءَ على حقيقةٍ مفادها أنه على الرغم من أن التأثير القصير المدى للحرب في غزة أصبح محسوسًا بالفعل في قطاع الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط،، إلّا أن تأثيراتها الأكثر إثارة للقلق سوف تظهر بوضوح في المستقبل. وكانت صناعة الغاز الإقليمية مُهَيَّأة لاستثماراتٍ وعمليات تطوير إضافية كبيرة. وربما يؤدي ارتفاع المخاطر الجيوسياسية الناجمة عن الصراع بين إسرائيل و”حماس”، والذي لن يتبدّد قريبًا، إلى تثبيط ذلك. وفي المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى إبطاء نمو صناعة الطاقة في إسرائيل، وربما تحويل الاستثمار والتنمية إلى البلدان المجاورة، من خلال تسليط الضوء على نقاط الضعف الأمنية التي تم تجاهلها إلى حد كبير في السابق.
- هاني مكارم هو مدير تحرير “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.