بيكاسو الباكر كلاسيكي رائد متمكِّن

“العجوز ذو القبعة” (1895)

هنري زغيب*

حين صدر  مقالي “المزاجيّ بيكاسو… من التنويه إِلى التشويه” (“أسواق العرب” – 10/10/2023) رأَى فيه البعض مبالغةً في الرأْي، وخصوصًا في كلمة “تشويه” التي اعتبروها “تجنِّيًا” على “أَحد كبار فناني القرن العشرين”.

غير أَني ما كنتُ أَرمي إِلى أَيِّ “تَـجَنٍّ” في مقالي، سوى ذاك “التشويه” (لم أَجد كلمةً أخرى) أَلحقَه بزوجته بعد انفصاله عنها فرسمها بما شوَّه فيها جميع ملامح الأُنوثة والمرأَة والحضور الأُنثوي. ويومها تعمَّدتُ نشَر الصورتَين معًا: لوحته عن زوجته أُولغا خوخلوفا سنة 1918 وهو في مطلع زواجه منها، وإِلى جنبها لوحته عنها سنة 1929 بعد خصامهما، فجاءَت اللوحة من أَبشع ما يمكن أَن يشتُم به رسامٌ صورةَ امرأَة. أَما أَن يكون بيكاسو (1881-1973) “أَحد كبار فناني القرن العشرين”، فلا أُجادل، وأَنا لا أَرتجِلُني ناقدًا فنيًا بل أَعتبرُني قارئًا عاديًّا أَمام اللوحة.

ولكي أُؤَكِّد على متانة الريشة المبكرة في يد بيكاسو، كتبتُ هذا المقال عن بواكيره الأُولى، وفيها الكثير من الكلاسيكية الخالدة التي أَثبتَ فيها قدرته الساطعة، قبل أَن يحيد عنها إِلى ما شاءَه أَن يكون “أُسلوبه الخاص” الذي انحاز فيه إِلى “خربطة” جميع مقاييس الجمال في الفن.

أَقول هذا، وليحْكُم القراء في هذا المقال على ما أَقول.

“العمة جوزيبا” (1896)

متانة الـمَطالع الكلاسيكية

رسم بيكاسو لوحاته الأُولى في سن مبكرة. وتروي أُمُّه أَن أكثر كلمة كان يردِّدها في طفولته هي: “القلم… القلم”، كي يرسم به. لذا منذ كان في السابعة بدأَ يتلقَّى على أَبيه دروسًا في الرسم والزيتيات. فوالدُه خوسيه رُويث رسَّام اشتهر برسْم الطيور، وكان مدرِّس الرسم في مدرسة للحرفيات وحافظَ متحفٍ محلي في المنطقة.

ارتأَى والد بيكاسو وعمُّه أَن يرسلاه إِلى “أَكاديميا سان فرناندو للفنون الجميلة” في مدريد، وهي أَهمُّ مدرسة فنون عهدذاك.

في السادسة عشرة انطلق بابلو إِلى حريته فغادر تلك الأَكاديميا سريعًا لكُرهه ما كانت تلْقي من دروس. وكان في مدريد أَكثر من مركز للفن، أَبرزُها متحف بْرادو الذي كان يضمُّ أَعمال الكبار (دييغو فيلاسكيز، فرنسيسكو غويا، فرنسيسكو زورباران). أَخذ بيكاسو يتردَّد على المتحف ويتوقَّف طويلًا أَمام أَعمال إِلغريكو، ما ظهر لاحقًا في أَعماله اللاحقة.

هنا بعضٌ من لوحاته الأُولى.

“رسم ذاتي” (1896)
  1. “عجوز بالقبعة” (1895)، رسمها وهو في الرابعة عشرة وهي من أَوائل أَعماله. استعمل فيها كثافة زيتية أَكثر من أعماله المبكرة السابقة. استعان لها بأَحد أَقربائه ونفَّذها بدقة عالية في تفاصيل مذهلة القواعد الكلاسيكية. وظهر فيها أَثر واضح للشمس والريح على وجه العجوز. من هنا أَنه لم يهتمّ للثوب بقدر اشتغاله على تفاصيل الوجه الدقيقة تجاعيدَ ونورًا وظلالًا ونظرةً عميقة، وأَلوانًا تتدرَّج من الأَبيض إِلى الرمادي فالبُنيّ. هذا الميل إِلى رسم الوُجوه رافق بيكاسو طوال حياته.
  2. “وجه العمة جوزيـپـا” (1896)، لوحة انطباعية ممتازة رسمها لعمَّته جوزيبا رويث بلاسكو في واقعية راسخة، تُذكِّر أَلوانها والظلال فيها بتأْثير التقليد التشكيلي الإِسباني، خصوصًا في أَعمال فيلاسكيز. لم تكن عمته ترضى بالجلوس أَمامه ليرسمها، لذا تبدو في اللوحة على بعض توتر. رسمها بابلو إِبان رحلة له مع عائلته إِلى ملقة. ويروي صديقه جيم سابارتيث (سكرتيره لاحقًا) أَنه رسمها بأَقل من ساعة، لكثرة ما كان عليه من براعة راسخة.
  3. لوحة رسمه الذاتي (1896): وضعها في الفترة ذاتها التي رسم فيها عددًا من أَفراد عائلته. وتبدو فيها واقعيته بشكل واضح كما يظهر فيها تمكُّنُه من ضربة الريشة الوثقى في الملامح الواثقة والتعابير الجلية.
  4. لوحة وجه أُمِّه (1896): رسمها بالباستل في برشلونة إِبان الفترة ذاتها أَعلاه، وكان في الخامسة عشرة. والتقطَ لحظاتٍ كانت فيها أُمه (ماريا بيكاسو لوبيز) نصف نائمة في قيلولة النهار. ويرى نقاد الفن أَنْ قد يكون بيكاسو وضعَها في مرحلة تَدَرُّبه على الرسم المباشر من الموديل أَمامه. وتظهر فيها براعته في تناقض الأَلوان بين بياض الثوب وسواد الشَعر وحبة القرط في أُذنها، ما يدل على تمكُّنه من ريشته الثابتة.
  5. لوحة “العلْم والإِيمان” (1897): لعلَّها أَهم لوحات بيكاسو الباكرة إِبان مرحلة تدرُّبه وتمارينها المتواصلة. وهذه اللوحة هي من مرحلة دراسته الأَكاديمية على والده. رسمها في برشلونة لشاب مريض، عن يمينه طبيب يجسُّ نبضه (رمز العلْم) وعن يساره راهبة تحمل طفلًا (رمز الإِيمان). وهذه اللوحة إِحدى ثلاث رسم فيها بيكاسو عن جائحة كوليرا ضربت المدينة وتوفيت بمرض الديفتيرا بها شقيقته الصغرى كونشيتا سنة 1895 وهي في السابعة. اللوحتان الأُخْرَيان هما: “المرأَة المريضة” (1894) و”اللحظات الأَخيرة” (1899).

في الخلاصة

“أمُّهُ النائمة” (1896)

أَعود إِلى مطلع المقال، لأُؤَكِّد على براعة بيكاسو اللافتة في الرسم الكلاسيكي، قبل أَن يهجره ويختار “أُسلوبه الخاص” الذي انتهجه منذ بدايات تردُّده إِلى باريس (بدءًا من 1900) بلوغًا إِلى مرحلته الزرقاء (1901 -1904) فالمرحلة الزهرية (1904-1906) ومطالع مرحلته التكعيبية بتأْثير من زميله الرسام الفرنسي جورج بْراك (1882-1963)، ومنها انفلت إِلى المراحل التي أَخذ فيه يعمل على تشويه الجسم البشري والوجه وسائر ما انتهى إِليه من “أُسلوب”.

“العلْم والإِيمان” (1897)

هل كان بيكاسو سيبرع لو أَكمل في الكلاسيكية ويشتهر، لو لم تؤَثِّر عليه تيارات باريس؟ ربما، ولكن ربما لذلك أَراد أَن “يخالف” الأَساليب الكلاسيكية و”يخرج” إِلى طريقته الخاصة التي حملت له شهرة عالَمية بين مؤَيِّدٍ حريته ومناهضٍ خربطاته التشكيلية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى