برنامجُ الفضاء الإيراني يُحقّقُ “اختراقاتٍ” ولكن…

يُسَلّطُ إطلاقُ إيران الأخير للقمر الإصطناعي الضوءَ على التحدّيات التكنولوجية المستمرة التي تواجهها البلاد وعجزها المستمر عن وضع أقمار إصطناعية مفيدة عسكريًا في المدارِ بشكلٍ مستقل.

إيران تدخل عالم الأقمار الاصطناعية ولكن…

هشام الجعفري*

في أواخر أيلول (سبتمبر) 2023، نجحت مركبة إطلاق الأقمار الإصطناعية الإيرانية في وضعِ قمرٍ اصطناعي للتصوير في المدار. ومع ذلك، فإنَّ هذا الإطلاق لم يُظهِر تقدّمًا في قدرات إيران في مجال الإطلاق الفضائي والأقمار الإصطناعية ولا أدّى إلى تحسين قدراتها العسكرية وقدرات وكلائها الإقليميين وحلفائها من غير الدول. بدلًا من ذلك، سلط الضوء على التحديات التكنولوجية المستمرة التي يواجهها برنامج الفضاء الإيراني، فضلًا عن عدم قدرة طهران المستمرة على وضع أقمار إصطناعية مفيدة عسكريًا في المدار بشكلٍ مستقل.

على الرُغم من أنَّ أصولَ أو بدايات برنامجها الفضائي غير واضحة، إلّا أنَّ إيران كانت تسعى إلى إطلاقٍ فضائي مستقل وقدرة على تصميم الأقمار الإصطناعية منذ عقدين على الأقل. في العام 2004، أسّست إيران وكالة الفضاء الإيرانية، وبدأت تكييف تكنولوجيا الصواريخ الباليستية الخاصة بها مع برنامجٍ فضائي مدني. وبينما اعتبر العديد من المراقبين الخارجيين ذلك وسيلةً لمواصلة تطوير قدراتها الصاروخية الباليستية تحت عباءة برنامجٍ مدني، فإنَّ القدرةَ على الإطلاق الفضائي تُوَفِّرُ أيضًا فوائدَ عسكرية مُحتَملة، بما في ذلك القدرة على وضعِ أقمارٍ إصطناعية في المدار، سواء للتصوير أو للاتصالات. على أية حال، بحلول العام 2008، بدأت إيران اختباراتٍ دون مدارية لمركبةٍ فضائية بمرحلةٍ أولى مُستَمَدّة من الصاروخ الباليستي بعيد المدى “شهاب 3” الذي يعمل بالوقود السائل والذي أصبح يُعرَف في ما بعد باسم “سفير”. وفي شباط (فبراير) 2009، وضعت مركبة “سفير” الفضائية أول قمر اصطناعي إيراني في المدار.

مع ذلك، وكما هو الحال مع القمر الإصطناعي “سبوتنيك” الذي أطلقه الاتحاد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة، كان أول قمر اصطناعي إيراني، “أوميد” الذي يبلغ وزنه 27 كيلوغرامًا، إنجازًا تقنيًا ولكن لم تكن له قيمة عملية تُذكَر سواء للأغراض المدنية أو العسكرية. ويعكس حجمه الصغير التصميم المحدود للأقمار الإصطناعية الإيرانية وقدرتها التصنيعية، ولكنه يعكس أيضًا حقيقة أنَّ المركبة الفضائية “سفير” المُكَوَّنة من مرحلتين لم تكن قادرة على وضع حمولات أكبر بكثير أو أكثر فائدة في مدار أرضيٍّ مُنخَفض، على ارتفاعٍ يتراوح بين 160 و1,000 كيلومتر. ولم تُوفّر المرحلة الأولى من طراز “سفير”، الذي يعتمد على الوقود السائل الذي عفا عليه الزمن، والذي كان مُستَمَدًّا من تكنولوجيا الستينيات القديمة لصاروخ سكود الباليستي السوفياتي، مجالًا كبيرًا لنموِّ الأداء، ما جعل تطورها مسدودًا. ولذلك بدأت إيران تطوير “سيمرغ”، وهي مركبة فضائية تم بناؤها حول مجموعة من أربعة محركات صاروخية تعمل بالوقود السائل مُستَمَدَّة من “شهاب 3” في مرحلتها الأولى.

وفي وقت الكشف عنها في العام 2010، بدا أن “سيمرغ” تُقدّمُ لبرنامج الفضاء الإيراني طريقًا نحو وضعِ أقمارٍ إصطناعية أكبر وأكثر فائدة، سواء كانت مدنية أو عسكرية، في المدار. ومع ذلك، واجه تطوير “سيمرغ” تحديات تقنية. في حين قامت “سيمرغ” برحلةٍ شبه مدارية ناجحة في العام 2016، فقد ثبت أنها نظامٌ غير موثوق، حيث فشلت جميع محاولات إطلاقها المدارية المعروفة بين العامين 2017 و2021.

بحلول أوائل العام 2020، كان من الواضح أنه على الرُغم من أكثر من عقد من التطوير والاختبار، فمن غير المرجح أن تُقدّم مركبات “سفير” و”سيمرغ” الفضائية لإيران قدرةً موثوقة أو مفيدة عسكريًا على الإطلاق إلى الفضاء. وبينما تعلن وسائل الإعلام الإيرانية بانتظام عن مشاريع جديدة للأقمار الإصطناعية، كانت البلاد غير قادرة على وضعها في المدار، كما قيَّدت العقوبات قدرة إيران على الوصول إلى مقدِّمي خدمات إطلاق الفضاء الأجانب. وبعيدًا من حلِّ أيِّ مشاكل تقنية التي واجهتها مركبة “سيمرغ”، فإنَّ طموحات إيران الفضائية تتطلّب مركبة فضائية جديدة أكثر قدرةً بكثير.

تمَّ تحقيقُ هذا التقدّم في نيسان (أبريل) 2020، عندما أعلنت إيران بشكلٍ غير متوقَّع أنَّ الحرس الثوري الإيراني -وليس وكالة الفضاء الإيرانية- قد وضع قمرًا اصطناعيًا للتصوير العسكري، “نور-1″، في المدار باستخدام ثلاث مركباتٍ اصطناعية جديدة لم تكن معروفة سابقًا، “قاصد”. في حين أنَّ “قاصد”، مثل “سفير” و”سيمرغ”، استخدم محرِّكًا صاروخيًا يعمل بالوقود السائل من “شهاب 3” في مرحلته الأولى، فقد استخدم محركات جديدة تعمل بالوقود الصلب في مرحلته الثانية والثالثة. بناءً على هذا الاختراق المفاجئ في تكنولوجيا المحركات الصاروخية الإيرانية التي تعمل بالوقود الصلب، أجرت إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 اختبارًا دون مداري لتصميم مركبة فضائية جديدة ذات صلة، وهي “قائم-100”. في حين أنَّ “قاصد” مُجَهَّزٌ بمرحلةٍ أولى تعمل بالوقود السائل بالطريقة نفسها مثل “سفير” و”سيمرغ”، فإن “قائم-100” تستخدم مرحلة أولى جديدة تعمل بالوقود الصلب، ما يجعلها مركبة فضائية تعمل بالوقود الصلب حصريًا.

وقد حظي الكشفُ عن صاروخَي “قاصد” و”قائم-100″ باهتمام دولي كبير، لأسبابٍ ليس أقلها أنَّ هاتين المركبتين الفضائيتين تمَّ تطويرهما وتشغيلهما من قبل الحرس الثوري الإيراني، ما يعني أن إيران لديها برامج موازية للإطلاق الفضائي والأقمار الإصطناعية. وفي حين أن مدى تبادل التكنولوجيا والخبرة والقدرة الصناعية بين وكالة الفضاء الإيرانية والحرس الثوري الإيراني غير معروف، إلّا أنَّ هناك دلائلَ تُشيرُ إلى أنَّ الحرسَ الثوري الإيراني، الذي يُشَغّلُ الصواريخ الباليستية الإيرانية، يبذلُ جُهدًا مستقلًّا. وفي دليلٍ على الغيابِ الواضحِ للتنسيق، كشفت إيران في شباط (فبراير) 2021 عن “ذو الجناح”، وهو تصميم جديد من ثلاث مراحل يعمل بالوقود الصلب في المرحلتين الأولى والثانية ويبدو أنه بديلٌ من مركبة “سيمرغ” التي تعمل بالوقود السائل والتي لم تنجح.

في حين أنَّ “قائم-100″ و”ذو الجناح” لا يزالان قيد التطوير، فقد استخدمت إيران بنجاح صاروخ “قاصد” التابع للحرس الثوري الإيراني لوضع قمرين اصطناعيين آخرين للتصوير العسكري في المدار، وآخرهما هو “نور-3” في أيلول (سبتمبر) 2023. ومن حيث المبدأ، فإنَّ استخدامَ الوقود الصلب الجديد قد زوّدَ محرّكات الصواريخ وبرامج الإطلاق الفضائية والأقمار الإصطناعية الإيرانية، بفرصةٍ متجدّدة للحياة لتجاوز عَقدٍ من خيبة الأمل الذي أعقبَ وضع أول قمرٍ اصطناعي إيراني في المدار في العام 2009. ومع ذلك، بعد أَخذِ كلِّ الأمورِ بعين الاعتبار، فإنَّ هذه التطورات الأخيرة في قدرات إيران الفضائية قد استغرقت وقتًا طويلًا في الإعداد، ونظرًا للحمولة الصغيرة لمركبة “قاصد” الفضائية، فإنها لا تُشكّلُ اختراقًا كبيرًا له آثارٌ عسكرية كبيرة في المدى القريب.

في حين أنَّ الأقمارَ الإصطناعية الثلاثة من سلسلة “نور” التي وضعتها إيران في المدار بواسطة مركبة “قاصد” منذ العام 2020 هي أقمارٌ اصطناعية للتصوير العسكري إسميًا، إلّا أنها عبارة عن تصميمات مكعّبات صغيرة جدًا. وأحدث هذه الصواريخ، “نور-3″، هو أيضًا الأكبر، لكن يُقالُ إنه يزن 24 كيلوغرامًا فقط، وهي مواصفات تُحدّدها سعة الحمولة المحدودة لـ”قاصد”. ونتيجةً لهذا الحجم الصغير جدًا، تم تجهيز أقمار “نور” الإصطناعية بأجهزةِ استشعارِ تصويرٍ صغيرة وخفيفة الوزن يمكنها فقط التقاطَ صورٍ مُنخَفِضة الدقّة، ومن المحتمل أن يتم قياسها بأرقام فردية عالية أو بأرقامٍ مزدوجة منخفضة من الأمتار، بدلًا من الصور ذات الدقة التي تقل عن متر والتي يتم التقاطها بواسطة أقمار إصطناعية مخصصة للتصوير العسكري تديرها بلدان أخرى. وهذا يجعلها بالتأكيد أقل شأنًا حتى من صور الأقمار الإصطناعية التجارية التي يمكن الوصول إليها على نطاق واسع. ولأن هذه الأقمار الإصطناعية صغيرة جدًا وخفيفة الوزن، فإنها تفتقر إلى مصدر طاقة على متنها لمواجهة التدهور المداري في المدار الأرضي المنخفض، ما يمنحها عمر خدمة قصيرًا. ولهذه الأسباب، فإن سلسلة “نور” من أقمار التصوير العسكرية الاسمية ذات فائدة عسكرية محدودة للغاية.

إذا نجح صاروخ “ذو الجناح” والمشتقات الأكبر والأكثر قوة من “قائم-100” في إكمال الاختبار وإثبات الموثوقية، فستكون إيران طوّرت قدرة مستقلة لوضع أقمار إصطناعية متواضعة الحجم -من فئة وزن 100 إلى 250 كيلوغرامًا- في الفئة الأدنى لنهاية المدار الأرضي المنخفض. لكن الأمر سيستغرق أكثر من عقدين من الجهود المتواصلة للقيام بذلك.

ومهما كان الأمر، فإن هذا سيسمح لإيران بوضعِ أقمارٍ إصطناعية للتصوير مفيدة عسكريًا في المدار لمراقبة الأهداف المُحتَمَلة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وبالتالي تحسين فعالية الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز وصواريخ المدفعية الموجَّهة والطائرات المسيَّرة ذات الاستخدام الواحد التي تديرها إيران وحلفاؤها ووكلاؤها من غير الدول في لبنان والعراق وسوريا واليمن وقطاع غزة. ومع ذلك، فإن مثل هذه المركبات الفضائية لن تسمح لإيران بوضع أقمار إصطناعية للاتصالات في المدار يمكن من خلالها لطهران وحلفائها ووكلائها من غير الدول التحكّم في الطائرات المسيَّرة البعيدة أو التواصل مع صواريخ كروز البعيدة. ولوضع أقمار الاتصالات هذه في مدارٍ ثابت بالنسبة إلى الأرض على ارتفاع حوالي 36 ألف كيلومتر فوق الأرض، ستحتاج إيران إلى مركبات فضائية أكبر بكثير ومجهَّزة بصواريخ أكثر قوة، وهو ما سيتطلب على الأرجح سنوات عديدة من التطوير التكنولوجي الإضافي والاختبارات المكثّفة.

إنَّ قدرةَ إيران غير المؤكّدة على تصميم وتصنيع أقمارٍ اصطناعية مفيدة عسكريًا، فضلًا عن استمرار عدم قدرتها على وضعها في المدار، تتأكد من حقيقة أنَّ القمر الإصطناعي الأكثر قدرة الذي تمتلكه إيران والذي يعمل حاليًا هو من صنعٍ روسي وتمّ وضعه في المدار من قاعدة بايكونور الفضائية التي تديرها روسيا في كازاخستان في آب (أغسطس) 2022. تم وضع هذا القمر الإصطناعي للتصوير ثنائي الاستخدام، والذي يقال أنه يوفّر دقة تبلغ  مترًا مربعًا ويزن 600 كيلوغرام، في مدارٍ أرضي منخفض بواسطة مركبة فضائية روسية من طراز “سويوز 2.1 ب” (Soyuz 2.1b) بسعة حمولة تصل إلى 8200 كيلوغرام. مرة أخرى، في المقابل، يُقال إنَّ أحدث قمر إصطناعي وضعته إيران بشكل مستقل في مداره في أيلول (سبتمبر) 2023، “نور-3″، يزن 24 كيلوغرامًا فقط. ومركبة الإطلاق الفضائية الوحيدة الموثوق بها في إيران حتى كتابة هذه السطور، “قاصد” التابعة للحرس الثوري الإيراني، لديها قدرة حمولة تبلغ 50 كيلوغرامًا لمدار مماثل.

في 2 شباط (فبراير) 2024، ستحتفل إيران بالذكرى الخامسة عشرة لوضع أول قمر إصطناعي لها في المدار بنجاح. ومع ذلك، على الرغم من التقدم الذي حققته إيران في قدرات إطلاق الفضاء والأقمار الإصطناعية على مدار عقدين من الجهود المتواصلة، فإنها تظل تعتمد على المساعدات الأجنبية، التي تقدمها روسيا حاليًا، للوصول إلى الأقمار الإصطناعية المفيدة عسكريًا. وبدلًا من استعراض التقدم الذي أحرزته إيران في قدراتها في مجال الإطلاق االفضائي وإطلاق الأقمار الإصطناعية، يسلط إطلاق إيران الأخير للقمر الإصطناعي الضوء على التحديات التكنولوجية المستمرة التي تواجهها البلاد وعجزها المستمر عن وضع أقمار إصطناعية مفيدة عسكريًا في المدار بشكل مستقل.

  • هشام الجعفري هو مراسل “أسواق العرب” في طهران.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى