المُحَرِّكات الخَمسة الرئيسة لعَدَمِ اليقينِ الاقتصادي العالمي

محمّد العريان*

كانت الشركات والحكومات والمستثمرون يُبحِرون أصلًا في مشهدٍ عالميٍّ ضبابي قبل الأحداث المأسوية التي تتكشّفُ في الشرق الأوسط. لكن الصراعَ المُروِّعَ بين حركة “حماس” الفلسطينية وإسرائيل، والذي أدّى بالفعل إلى مُعاناةٍ هائلة وأَودى بحياة الآلاف من المدنيين، بما في ذلك العديد من الأطفال، كان سببًا في خلق طبقةٍ جديدةٍ من عدم اليقين بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وهو موضوعُ هذا المقال. وحتى في ظلِّ الحدثِ، غير المُرَجَّحِ إلى حدٍّ كبير، المُتمثّل في تحسّن الوضع الجيوسياسي بسرعة في المنطقة وخارجها، فسوف يظل هناك شعورٌ عميقٌ بعدم اليقين، مدفوعًا بخمسةِ عوامل اقتصادية ومالية.

أوّلًا، تتعرَّضُ محرّكات النمو الرئيسة للاقتصاد العالمي حاليًا لضغوطٍ شديدة. ومع ترنّحِ أوروبا على حافة الركود وتعثّر الصين، برز الاقتصاد الأميركي باعتباره المحرّك الرئيس للنمو العالمي. وأصبح هذا واضحًا بشكلٍ خاص في الربع الثالث من العام 2023، حيث كانت تقديراتُ النمو في الولايات المتحدة مُثيرةً للإعجاب مرة أخرى.

ولكن حتى توقّعات النمو في أميركا غير مؤكّدة. على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية، كان إجماعُ المُحلّلين حول اتجاه الاقتصاد الأميركي يتأرجّحُ بشكلٍ جامح بين أربعة سيناريوهات: الهبوط الناعم، والهبوط العنيف، والهبوط الاصطدامي، وعدم الهبوط. ورُغمَ أنَّ وجهةَ النظر السائدة الآن هي أنَّ الولايات المتحدة تتجه نحو هبوطٍ ناعم، فإنَّ التوقّعات قد تتحوّل نحو هبوطٍ حاد خلال الأسابيع المقبلة.

وعندما يُصبحُ من الممكن أن يتغيّرَ سَردُ النموِّ لأكبرِ اقتصادٍ في العالم، بمؤسّساته الناضجة وقاعدته الإنتاجية المُتنَوِّعة، بهذه السهولة، فليس من المُستَغرَبِ أن تُصبِحَ حالةُ عدم اليقين في بقية العالم أكثر وضوحًا. فبدلًا من أن تشبهَ التوقعات العالمية التوزيع الطبيعي على شكل جرس للنتائج المحتملة مع ذروةٍ واحدة وذيولٍ نحيلة، فإنها تبدو أشبه بتوزيعٍ متعدّد الوسائط مع ذيولٍ سميكة على كلٍّ من الطرفين، ما يشير إلى ارتفاعِ احتمالاتِ وقوعِ أحداث متطرفة.

على الجانب الإيجابي، كما جادلتُ أنا وغوردون براون، ومايكل سبنس، وريد ليدو في كتابنا الجديد “الأزمة الدائمة” (Permacrisis)، فإنَّ التقدّمَ في الذكاء الاصطناعي التوليدي، وعلوم الحياة، والطاقة النظيفة لديه القدرة على تعزيز الإنتاجية وتعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي المُحتَمَل بشكلٍ كبير. وعلى الطرف الآخر من التوزيع، هناكَ خطرٌ يتمثّل في أن تؤدي مجموعةٌ من الحلقات المفرغة والسيئة إلى تفاقم التأثيرات المتتالية.

ثانيًا، إنَّ الرحلةَ نحو هذا المستقبل الغامض محفوفةٌ بالمخاطر. ويتمثّلُ الخطرُ الأكثر إلحاحًا في الارتفاع الأخير في تكاليف الاقتراض العالمية مع تكيّفِ الأسواق مع احتمال قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنوك المركزية الكبرى الأخرى، بعد أن رفعت أسعار الفائدة بقوة، ولو متأخرًا، لمواجهة اتجاهات التضخم التي أخطأت في تشخيصها في البداية، بالحفاظ على معدلات فائدة مرتفعة لفترة طويلة.

ثالثًا، يؤدي استمرار هذه التوقعات المتعلقة بأسعار الفائدة إلى زيادة خطر الركود والاضطرابات في الأسواق المالية. لقد شهدنا علاماتٍ مُبكرة على ذلك في شهر آذار (مارس) عندما أدّى سوء إدارة الموازنات العمومية والخلل في الإشراف المصرفي إلى فشل بعض البنوك الإقليمية في الولايات المتحدة.

رابعًا، يفتقر الاقتصاد العالمي والأسواق المالية الرئيسة، مثل أسواق سندات الحكومة الأميركية، الآن إلى المرتكزات الرئيسة من أعلى إلى أسفل، مثل زخم النمو، والثقة في إشارات صنع السياسات، وتحقيق استقرار التدفقات المالية.

ومع تزايد خضوع أدوات السياسة الاقتصادية للاعتبارات السياسية والجيوسياسية، فإنَّ آفاقَ النمو العالمي الضعيفة أصلًا قد تتدهور. وتواجه السياسة النقدية تهديدًا لمصداقيتها وشكوكًا بنيوية حقيقية بشأن مستوى توازن أسعار الفائدة والتأثيرات المتأخرة المترتبة على دورة رفع أسعار الفائدة المُركَّزة بشكلٍ ملحوظ. وعلاوة على ذلك، فإنَّ تقلّصَ الموازنات العمومية للبنوك المركزية وغيابَ إطارٍ سياسي فعّال يؤديان إلى تفاقم التحدي المتمثل في تحديد أهداف التضخم الصحيحة في اقتصادٍ عالمي يتَّسمُ بجانب العرض غير المرن بالقدر الكافي.

في ظل العجز المتزايد وارتفاع أقساط الفائدة، هناك أيضًاً سؤالٌ حول مَن سيستوعب الارتفاع الكبير في إصدار الديون الحكومية. لأكثر من عقد من الزمان، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي المشتري الأكثر جدارة بالثقة للسندات الحكومية الأميركية، وذلك بسبب قدراته التي لا حدود لها على طباعة الأموال وحساسية الأسعار الدنيا. ولكن بعد أن اضطرّه التضخم وغير ذلك من التجاوزات إلى التحوّل من التيسير الكمّي إلى الإحكام الكمي، فقد أصبح بنك الاحتياطي الفيدرالي الآن بائعًا صافيًا موثوقًا. ويبدو المشترون الدوليون أيضًا أكثر حذرًا، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى التوترات الجيوسياسية. علاوةً على ذلك، فقد تراكمت بالفعل لدى العديد من المؤسسات الاستثمارية المحلية، مثل صناديق التقاعد وشركات التأمين، حيازات كبيرة من السندات، ما أدى إلى تكبّدها خسائر كبيرة في السوق.

ومن دون هذه المرتكزات الاقتصادية والسياسية والتقنية، يصبح الاقتصاد العالمي وأسواق رأس المال أشبه بالقوارب في بحر هائج لا يمكن التنبؤ به. ويقودنا هذا إلى المحرّكِ الخامس لعدم اليقين العالمي: الاستجابة غير الكافية للأزمات الطويلة الأجل مثل تغيّر المناخ واتساع فجوة التفاوت الاقتصادي. وكلّما طال انتظارنا لمعالجة هذه المشاكل، زادت التكاليف النهائية. إنَّ تصرفاتنا غير الكافية اليوم تضمن أننا سنواجه عقبات اقتصادية وسياسية أكثر تعقيدًا في المستقبل.

وكما كتبنا في كتاب “الأزمة الدائمة”، فقد تشكّلَ عالم اليوم بفعل ثلاثة إخفاقات مستمرة: العجز المتكرّر عن تحقيق نموٍّ ثابتٍ وشاملٍ يحترم كوكبنا أيضًا؛ وأخطاء السياسة الداخلية المتكررة؛ والافتقار المستمر إلى التنسيق الفعّال للسياسات العالمية في وقتٍ حيث تتطلّب التحديات المشتركة العمل الجماعي. وكانت لهذه الإخفاقات مُجتمعةً تداعيات اقتصادية ومالية ومؤسّسية واجتماعية وسياسية وجيوسياسية عميقة.

هذه هي الأخبار السيئة. والخبر السار هو أن لدينا القدرة على حلِّ هذه المشاكل وتحويل حلقات اليوم المفرغة والسيئة إلى حلقات حميدة. ولكن لتنفيذ التحوّلات الكبرى المطلوبة لتحقيق هذا الهدف، نحتاج إلى قيادة سياسية حكيمة على المستوى الوطني وزيادة الوعي العالمي بالتحديات المشتركة التي نواجهها. وفي غياب مثل هذه القيادة، فإننا نجازف بترك عالمنا لأبنائنا وأحفادنا مُبتَلى بعدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، والاضطرابات السياسية الداخلية، والاضطرابات الجيوسياسية.

  • محمد العريان هو رئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج، وأستاذ في كلية وارتون في جامعة بنسلفانيا. وهو مؤلف كتاب “اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، والتعافي من انهيار آخر” (راندوم هاوس، 2016) ومؤلف مشارك (مع غوردون براون، ومايكل سبنس، وريد ليدو) لكتاب “الأزمة الدائمة: خطة لإصلاح عالم ممزق” (سايمون وشوستر، 2023).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى