مسارُ أستانة السوري إلى أين؟
فيصل عباس محمد*
في 21 حزيران (يونيو)، انطلق اليوم الأول من الجولة العشرين لمحادثات أستانة للسلام في سوريا، وهي عبارة عن منتدى ثلاثي الأطراف برعاية روسية-تركية-إيرانية، تستضيفه الأراضي الكازاخستانية. والعملية التي بدأت في كانون الثاني (يناير) 2017 هدفت ظاهريًا إلى إنهاء النزاع المسلّح في سوريا و”إطلاق انعقاد عملية التفاوض السياسية الرسمية”، بحسب ما أعلنه المبعوث الخاص للأمم المتحدة آنذاك ستيفان دي ميستورا بلهجة تفاؤلية.
لقد أبدى السوريون، منذ البداية، ارتيابهم من الأهداف الكبرى التي وضعها المنتدى. بعد الجولة الأولى من المباحثات، أجرت قناة “الجزيرة” الفضائية القطرية مقابلات مع عدد من السوريين الذين يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة في شمال غربي سوريا. وقد انتقد أحد النشطاء غياب مشاركة السوريين أنفسهم قائلًا: “لا رأي لنا، لأن روسيا وتركيا تفرضان ما تريدانه… ثم تفرض كتائب [المعارضة] ذلك على الشعب. باع الآخرون أنفسهم للجهات الراعية. والثمن كان ثورتنا”. سلّطت هذه المقابلات الضوء على خيبة الأمل تجاه القادة العسكريين والسياسيين في المعارضة السورية الذين رضخوا للضغوط التركية والروسية وقوّضوا أهداف الثورة السورية.
اعتبر دي ميستورا ثم خلفه غير أوتو بيدرسن، في تبريرهما لمحادثات أستانة التي جرت برعاية الأمم المتحدة، أنها وسيلة لتحقيق السلام. ولكنها منحت، بدلًا من ذلك، الجهات الضامنة الغطاء اللازم لتقسيم سوريا إلى أربع “مناطق لخفض التصعيد” الهدف منها احتواء النزاع، فيما كانت كل جهة من تلك الجهات تتفاوض لتحقيق مصالحها.
اقتصر الالتزام بـ”خفض التصعيد” على جانبٍ واحد فقط. فقد انتهكت قوات النظام السوري، بدعمٍ من حلفائها الروس والإيرانيين، الاتفاق بين العامَين 2018 و2019، واستولت على المناطق الثلاث الأولى وأجزاء من المنطقة الرابعة، فحشرت المعارضة المسلّحة و4.5 ملايين سوري – منهم مئات آلاف المدنيين النازحين – في مساحةٍ ضيَّقة في شمالي سوريا وشمالها الغربي عند الحدود التركية. ولم تبادر أنقرة، الراضية عن ترسيخ وجودها العسكري في شمال غربي سوريا، إلى كبح الاعتداءات الواسعة التي شنّها النظام على حلفائها السوريين، إضافة إلى الديبلوماسية الإكراهية التي طبّقتها من حينٍ لآخر. ولكن الهجمات العسكرية المُتتالية التي شنّها النظام وحلفاؤه، وما أعقبها من اتفاقات لوقف إطلاق النار جرى التفاوض عليها مع أنقرة، أتاحت لسوريا إعادة ترسيم خطوط التماس.
أعلن المندوب الكازاخستاني فجأةً، في المحادثات في حزيران (يونيو) الماضي، أن بلاده لم تعد ترغب في استضافة الاجتماعات، زاعمًا أنها نجحت في تحقيق أهدافها. وقد أصدرت الترويكا بيانًا مُشترَكًا في ختام الاجتماعات شدّدت فيه على أن المحادثات ستُستأنف في وقتٍ لاحق من العام الجاري، ملمّحةً إلى أن نموذج أستانة سيُستكمَل ببساطة خارج العاصمة الكازاخستانية.
يكشف هذا الإصرار على نموذج أستانة عن طريقة عمله الحقيقية، فهو آلية لتطبيع الوجود العسكري للجهات الراعية له، مع تقليص الاحتكاكات بين الدول إلى الحد الأدنى. تعتمد أنقرة استراتيجية الاحتواء، سعيًا وراء الحد من تدفق مزيدٍ من اللاجئين إلى أراضيها فيما تعمل على كبح القوة السياسية والإكراهية للحكم الذاتي بقيادة الأكراد في شمال شرقي سوريا، والذي تعتبره تهديدًا وجوديًا. لقد وافقت موسكو وطهران على الحشد العسكري التركي في هذه المناطق. وهما في المقابل، تسعيان إلى الحد من قدرة الثوّار المدعومين من تركيا على التسبب بأيِّ تهديدٍ حقيقي لقبضة نظام الأسد على السلطة. تنظر موسكو وطهران إلى بقاء النظام بأنه شريان حياة استراتيجي يرتدي أهمية أساسية لتحقيق مصالحهما الأوسع في المنطقة، لا سيما في المشرق. ويبدو أنهما حصلتا، من خلال عملية أستانة، على تطمينات بهذا الخصوص.
ولكن أبعد من الرغبة المشتركة للجهات الراعية في القضاء على الطموحات الانفصالية الكردية في سوريا (وفقًا لما جرى التأكيد عليه في البيان المشترك) وفي المنطقة، لا تزال ثمة فجوات كبيرة بين الأهداف التي تسعى إليها كل واحدة من تلك الجهات. فوجود الثكنات العسكرية التركية، والرعاية التي تقدّمها تركيا للمجموعات السورية التي تتحرك بالوكالة عنها، وعلاقتها الملتبسة ب”هيئة تحرير الشام”، وانخراط الميليشيات الموالية لإيران، وزعزعة الاستقرار التي تتسبب بها هجمات النظام على ريف إدلب لا تزال نقاطًا خلافية.
لن يؤدّي استئناف عملية أستانة إلى تجدد شرعيّتها، ولن يمنع بالضرورة المعارضة النشطة ضدها. فليس مضمونًا على الإطلاق أن ممثلي بعض الفصائل المعارضة السورية سيستمرون في المشاركة في المباحثات، لأن مشاركتهم قد تهدّد ما تبقّى من مصداقيتهم في نظر السوريين.
بغض النظر عن الشكل المحدد الذي ستتخذه عملية أستانة 2 أو عن موقعها، من المؤكّد أنها ستتأثّر بالتطورات الإقليمية الأخيرة. فقبول بشار الأسد من جديد في الجامعة العربية، والسعي التركي للتطبيع مع سوريا وأفرقاء عرب أساسيين آخرين، مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة، والعزلة الدولية المستمرة لروسيا وإيران هي عوامل مهمة ستحدد ديناميات المباحثات، وما إذا كانت لا تزال ذات أهمية.
- فيصل عباس محمد هو أستاذ سوري-كندي متقاعد في السياسة الشرق أوسطية والعلاقات الدولية، ومعارض مخضرم كان شاهدًا على الانتفاضة السورية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @fmohamad2