بوشكين: الشعر أَقوى من السُلطة (1 من 2)
هنري زغيب*
هو في إِجماع النقَّاد ومؤَرخي الأَدب أَعظم شاعر أَطلعتْهُ روسيا. فعند الحديث عن الشعر يبرز أَلكسندر بوشكين (6 حزيران/يونيو 1799- 10 شباط/فبراير 1837) شاعرَ روسيا الخالد، مع أَنه مات في حادثة مأْساوية غريبة قبل أَن يبلُغ ربيعه الثامن والثلاثين. وبعدما بقي طويلًا خارج الساحة الأَدبية قبل ثورة 1917، جاء جوزف ستالين (1878-1953) فأَعاد له الاعتبار وكرَّسه شاعر النظام كذلك، مع أَن بوشكين كان غاب قبل 80 سنة من الثورة البولشيفية.
فما كانت دوافع ستالين إِلى هذا التحوُّل؟
“إِنه وطن بوشكين وتولستوي”
عن بعض المؤَرخين أَن ستالين، حين كان نازيُّو هتلر على مشارف موسكو مهدِّدين النظام السوفياتي، أَلقى خطابًا ناريًّا من الإِذاعة استنهض فيه الشعب الروسي بقوله: “هُبُّوا للدفاع عن وطن بوشكين وتولستُوْيْ”. وكانت تلك العبارة إِشارةً واضحةً إِلى أَن ستالين السياسي لم يستنهض الشعب بذكْر سياسيٍّ قبله أَو زعيم أَو قائد، بل استحَثَّ الشعب بلجوئه إِلى علَمَيْن من كبار عالَم الأَدب: بوشكين شاعرًا وطنيًا، وتولستوي روائيًا خالدًا.
بعد ذاك الخطاب، واصل ستالين إِعادة بوشكين إِلى الذاكرة. وإِذ كانت 1937 “سنة الرعب” في البلاد (فيها أَطلق ستالين حملته العاصفة لإِحكام قبضته على الحزب الشيوعي والدولة مطيحًا فلول تروتسكي وسائر زعماء الحزب) قرَّر تكريم ذكرى بوشكين كـ”رائد اشتراكي”، راميًا بذلك إِلى تمتين نظامه في الحُكم. وبعدما كان بوشكين عبقري الأَدب والشعر قبل الثورة الروسية، أَعاده السوفيات حاضرًا في ذهن الشعب شخصيةً أَقرب إِلى التكريس الأَعلى.
إِشراقُه في ذاكرة الشعب
في الذكرى المئوية (1837-1937) لوفاة بوشكين، احتفلت به روسيا السوفياتية في شكل غير مسبوق، فانتقل مع ستالين في ذاكرة الشعب إِلى سطوعه خالدًا مع الخالدين في قلب الوسط الثقافي السوفياتي، بعدما كان في الظل شبه منسيٍّ عند انبثاق النظام الماركسي الـمُشيح عن أَيِّ نبض ثقافي ووطني وتقليدي وتراثي وروحاني.
فماذا عنه قبل ذاك السُطوع؟ وكيف كان شاعرًا عظيمًا قبلذاك؟ وما الذي يجعله جوهرة الأَدب الروسي؟
النقاط العشْر
يمكن تلخيص أَهميته بعشر نقاط رئيسة، هي التالية:
- أَوجَد لغة روسية حديثة فكان رائدها، متجاوزًا أُسلوب الشعر الروسي التقليدي، وكاسرًا الحدود بين القاموس المحكي والتقليدي المكتوب، فباتت اللغة بعده بهذا الأُسلوب لغة روسيا اليوم.
- كتَبَ في أَكثر من نوع أَدبي: القصائد العاطفية، القصائد الغنائية، القصائد الوطنية، القصائد الروائية، القصص القصيرة، القصص الطويلة، الحكايات الأُسطورية، يومياته، المسرحيات التاريخية، النثر السردي، وسواها الكثير من الكتابات المتنوعة. وبات معظمها نموذجًا للأُدباء والشعراء بعده.
- تركَ أَثرًا في كثيرين بعده عالجوا مواضيعه خلال القرن العشرين: عذاب الطبقة الفقيرة، التصادم بين الموهوبين والمجتمع، الخيار الصعب بين الواجب والسعادة الفردية، الانتفاضة ضد النظام القائم، وسواها من الأَفكار التي عالجها بعده كبار مثل دوستويفسكي وتولْسْتُووْيْ وتشيخوف وآخرين.
روايتُه موسوعة الحياة الروسية
- أَوجَدَ موسوعة الحياة الروسية: خصوصًا في روايته الشعرية “يوجين أُونجين” التي رأَى فيها نقَّاد القرن التاسع عشر “موسوعة الحياة الروسية” لِما جاء فيها من وصف للحياة وثقافتها في تلك الحقبة. ولاحقًا صدرَت من تلك الرواية أَعمال باليه وأُوبرا ومسرحيات مختلفة وسَّعَت شهرتها في العالم، وكان بوشكين كتبها بين 1823 و1831 وعدَّل الكثير من فصولها قبل إِصدارها.
- الدقة والخيال في كتاباته: فمن عبقريته قدرتُهُ على إِيجاد صوَر بسيطة في عدد قليل من الكلمات يرسخ في ذهن القارئ، لِما كانت عليه براعتُه في صياغة أُسلوب رشيق، ولغة دقيقة مختزَلة، ظهَر في تفصيل بعض يومياته كم كان ينحتُها ويشذِّبها وينقِّحُها سطرًا سطرًا في تأَنٍّ عجيب.
- اندلعَت شهرتُه واسعةً بعد وفاته فلم ينعَم بها على حياته، وهو كان مرحًا في حديثه وعلاقاته، وجريئًا في انتقاد كبار الموظَّفين في محيطه، ما سبَّب له بعض الخصومات الشرسة والمشاكل الاجتماعية والتحدِّيات الغاضبة.
جرأَتُهُ سبَّبَتْ نفْيَه
- كان يؤْلِـمه الحياد عن الحقيقة، ما سبَّب نفيه بعد صدور قصيدته الشهيرة “نشيد الحرية”. نفاه الأمبراطور الإسكندر الأَول إِلى جنوب روسيا ثم عاقبه بالإِقامة الجبرية. وكان بوشكين على علاقة سرية متينة بالثوار الْكانوا يطالبون بالدستور والحرية. ولو لم يكن منفيًّا لكان حتمًا أَحد أَبرز القادة في انتفاضة 1825 في ساحة سانت بيترسبورغ اعتراضًا على تعيين الأَمبراطور نقولا الأَول بعد وفاة أَخيه الإِسكندر الأول، بسبب ما رافق ذلك التعيين من رقابة مشدَّدة وحجز الحريات الفردية. ومن تلك الفترة اشتُهرت له قصيدة جاء فيها: “لا سعادة في العالَم إِلَّا بالسلام والحرية” فذهبت قولًا ردَّده معظم الشعب الروسي.
- كتَبَ أَجمل قصائد الحب، وكان شهيرًا بحبه الجمال الأُنثوي حتى اتُهم بإِغواء النساء. ومن أَشهر قصائده الغزلية: “أَحببتُكِ حتى لم يعد في قلبي وقتٌ لنبض ينطفئ”. ومن قصيدة أُخرى عن المرأَة: “كلَّما تغزَّلنا بها أَقل، جذَبْناها إِلينا أَكثر”.
ما النقطتان الباقيتان من هذه العشْر؟
وما الذي دفع ستالين إلى تكريم بوشكين بهذا الشكل المضخَّم؟
هذا ما أَكشفه في الجزء الثاني من هذه الثنائية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.