كَيفَ قَرَّرَت الرِّياض تَطبِيعَ العلاقاتِ مع إسرائيل؟
محمّد قوّاص*
هل المملكة العربية السعودية مُستَعِدّة لتطبيعِ العلاقاتِ مع إسرائيل؟ الجواب هو نعم. وهل البلدان العربية برمّتها مُستَعدة لهذا الأمر؟ الجواب هو نعم أيضًا منذ إجماع قمّة بيروت العربية في العام 2002 على المبادرة العربية للسلام التي تقومُ على قاعدة الأرض مقابل السلام. والسلام بهذا المعنى هو تطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل.
والمبادرة العربية للسلام هي النسخة التي جرى “تعريبها” وتبنّيها من كل البلدان العربية، بعدما كانت سعودية المولد والأصل أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في العام 2002، وكان حينها وليًا للعهد. أسرَّ العاهل السعودي بالمبادرة إلى الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان الذي كتب عنها مقالةً اعتُبِرَت حينها حدثَ القرن.
تتحدّث المبادرة (السعودية) العربية عن إنشاءِ علاقاتٍ طبيعية مع إسرائيل مقابل قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967. ووفق هذه القواعد تقوم، حتى الآن، فلسفة احتمالات تطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية. وما يصدر عن منابر الرياض، لا سيما من خلال وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، لطالما يُعبّرُ عن مصالحة مع الذات وشفافية في طرح مسألة التطبيع كلّما أُثيرَ الأمر وكثرت الأسئلة بشأنه. يُردّدُ الرجل أنَّ “التطبيعَ مصلحةٌ للجميع ولن يتحقّق قبل إعطاء دولة للفلسطينيين”.
والواضح هذه الأيام أنَّ جلبةً مكثّفة أميركية توحي بأنَّ أمورًا تُحضَّرُ وخططًا توضَعُ للانتقال في علاقات السعودية وإسرائيل إلى مستوياتٍ متقدِّمة، كتلك التي أقامتها كلٌّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان (ومصر والأردن قبل عقود).
وبسبب كثافة اهتمام صحافة واشنطن، بما فيها مقالة فريدمان نفسه، حول هذا الاحتمال، وبسببِ تَدافُعِ كثيرٍ من التسريبات بشأن الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي جايك سوليفان ومُنسّق السياسات الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك إلى السعودية ومضامينها المُتعلّقة بملفِّ التطبيعِ مع إسرائيل، وبسببِ إعلانِ جون كيربي المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي للصحافيين أنَّ “التطبيعَ هو أحد تلك الأشياء التي نواصل دعمها بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية”، وبسببِ نَقلِ المنابر الإسرائيلية أجواء مُتفائلة بشأن المحادثات الأميركية-السعودية حول هذا الملف، وبسببِ مساعٍ قام بها قبل أشهر السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام بين السعودية وإسرائيل، فإنَّ الاحتمالَ بدا جدّيًا ويوحي بأعراضٍ لافتة.
ومع ذلك لم يصدر عن الرباض ما هو غير عادي مُقابل ضجيج أميركي-إسرائيلي فوق عادي. واللافت أنَّ “شروطَ السعودية” من أجلِ ذلك التطبيع باتت تنشرها صحف العالم من دون أي تأكيد رسمي سعودي-أميركي. ولا يمكن أن نصدّقَ أنَّ عرضَ صحف الولايات المتحدة وإسرائيل شروط المملكة هو تسريبٌ عرضي، بل هو رسمي، ربما من قبل واشنطن والرياض، بُغيةَ الارتقاء بالنقاش إلى مستوى الشفافية الكاملة في ما تريده السعودية مقابل علاقات كاملة مع إسرائيل.
مَن يَطّلعُ على شروطِ المملكة يستغربُ هذا التفاؤل الذي أبدته مراجع أميركية سياسية، بمَن فيها الرئيس جو بايدن، عن قرب التوصّل إلى الاتفاق المأمول. فالرياض تُطالِبُ بضماناتٍ أمنية أميركية ترقى إلى مستوى المعاهدة التي تصدر عن الكونغرس وتُصبِحُ مُلزِمة لكلِّ إدارات البيت الأبيض. والرياض تُطالِبُ بدعمٍ أميركي رسمي لبرنامجٍ نووي سعودي للأغراض السلمية. والرياض تُكرّرُ قراءةَ مبادرتها للسلام بشأن حلٍّ للمسألة الفلسطينية مقابل السلام.
الكرة في ملعب الولايات المتحدة وإسرائيل. تُدرِكُ الدولتان أنَّ التطبيعَ مع السعودية هو مفتاحٌ أساسي لكلِّ المنطقة العربية، وهو حجر الزاوية لأيِّ إطلالةٍ على العالم الإسلامي برمّته. وإذا كان الأمرُ مهمًّا واستراتيجيًّا وتاريخيًّا، فحَرِيٌّ بواشنطن وحليفها الإسرائيلي تقديم ما يُعتبَرُ عصيًّا، سواء في موقف الكونغرس من المعاهدة الأمنية أم في موقف إسرائيل وامتداداتها في الولايات المتحدة من البرنامج النووي السعودي.
وإذا ما كان شرطا السعودية المُتعلّقانِ بأمنِ المملكة ومستقبلها في نادي الدول النووية أمرًا قابلًا للأخذ والردّ، وخاضعًا لحسابات المنطق في علاقة واشنطن بالرياض وتعمل فيه مهاراتُ عَقدِ الصفقات والتسويات، فإنَّ ما هو متعلّق بالقضية الفلسطينية هو احتمالٌ صعب وربما مستحيل، ليس فقط بسبب وجود حكومة يقودها بنيامين نتنياهو هي أكثر الحكومات اليمينية تطرّفًا، بل لأنَّ السياقَ الإسرائيلي المُجتمعي والسياسي منذُ عقودٍ ينزعُ نحو إسقاط حلّ الدولتين وجعله، بالأمر الواقع، مستحيلًا.
يحتاج بايدن إلى إنجازٍ كبيرٍ تحققه إدارته داخل نزاع الشرق الأوسط التاريخي قبل الدخول في الحملة الانتخابية للاستحقاق الرئاسي لعام 2024. يحتاج نتنياهو إلى إنجازٍ على مستوى تطبيع علاقات إسرائيل مع السعودية ليُضاف إلى سيرته ويقوّي من موقعه داخل فسيفساء المشهد الحاكم. في المقابل، فإن السعودية التي تدرك ذلك، تنصتُ باهتمامٍ إلى زوار المملكة الآتين من واشنطن وتُثمّنُ جهودهم وتُرحّب بهمّتهم ولا تقفلُ البابَ أمام مساعيهم إذا ما تحقّقت شروطها.
السعودية مُستعدّةٌ للتطبيعِ منذ إطلاقها مبادرة السلام. وسبق للرياض أن أدلت بدلوٍ مُرَحِّب حين قامت بلدانٌ شقيقة وحليفة بإبرام اتفاقات أبراهام مع إسرائيل. سبقَ أيضًا أن فتحت أجواءها أمام الطيران المدني الإسرائيلي (بناءً على توسّط بايدن). والأهم أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أعلن في آذار (مارس) 2022 ومن خلال مجلة “The Atlantic” الأميركية أن المملكة لا تنظر إلى إسرائيل كعدو، بل “ننظر إليها كحليفٍ مُحتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معًا، لكن يجب أن تُحَلَّ بعضُ القضايا قبل الوصول إلى ذلك”.
والسياقُ يعني أن السعودية تغيّرت، تخلّصت من جمادٍ إيديولوجي، تتمسّك بالثابت وتتعامل مع المُتحوِّل، وباتت برغماتية رشيقة في الانخراط في حقب جديدة ما دامت تحقق لها مصالحها. وإذا ما تلوّح واشنطن بـ”اتفاقٍ سيُغيّر وجه الشرق الأوسط”، فإن للأمر قواعد وشروطًا وحساباتٍ دقيقة ومعقّدة.
خلف جدران التفاوض حربُ مصالح تُسَرِّبُ بعض أصدائها صحف واشنطن التي، حتى في تفاؤلها المفرط، تتحدّث عن كوّة ضّيقة في الجدار. تبدو ضمانات واشنطن الأمنية للسعودية قابلة “بشكل ما” للتحقّق، وها هو مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، يكتشف، الإثنين، أن بلاده “لن تقلق من احتمال قيام السعودية بتطوير قدراتٍ نووية مدنية”. يبقى الموضوع الفلسطيني هو مربط الفَرَس الذي يدفع هنغبي نفسه إلى الاعتقاد أن طريق التطبيع “لا يزال طويلًا”.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).