رحيل رياض سلامة من المصرف المركزي يُشَكِّلُ نهايةَ عَصرِ الحريرية في لبنان

مايكل يونغ*

في نهاية هذا الشهر، من المقرر أن يُغادرَ حاكمُ مصرف لبنان المركزي رياض سلامة منصبه بعد 30 عامًا، ما لم يُمَدِّد اتفاقٌ سياسي مشبوه ولايته بطريقة ما إلى أن يتم العثور على بديل. لقد وُجِّهَت إلى سلامة إتهاماتٌ في دول أوروبية عدة بالفساد، وأصدرت فرنسا وألمانيا “إخطارات حمراء” للإنتربول بشأن اعتقاله.

ومع ذلك، هناكَ رسالةٌ أكثر عُمقًا في رحيل الحاكم. في كثيرٍ من النواحي، يُمثّلُ ذلك النهاية الرمزية للحريرية – الإستراتيجية المالية والاقتصادية التي اعتمدها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري لإحياء وإعمار لبنان في نهاية الحرب الأهلية في العام 1990. وبينما أعاد الحريري الأب بناء منطقة وسط بيروت التاريخية، فقد كانت سياسته النقدية هي التي دفعت حقًا إلى النهضة اللبنانية – إلى أن انهارت مالية البلاد في العام 2019.

كانَ أساسُ هذه السياسة بشكلٍ عام هو الحفاظ على التكافؤ بين الليرة اللبنانية والدولار وجَذبِ رؤوس الأموال إلى لبنان من خلال أسعار الفائدة المُرتفعة على سندات وزارة المال والحسابات المصرفية. وبهذه الطريقة، يمكن للدولة أن تُمدّدَ الدين إلى أجلٍ غير مُسَمّى بالاعتماد على التدفقات الوافدة لتعويضِ العجزِ الدائم في الميزان التجاري اللبناني، وبالتالي سيبقى ميزان المدفوعات إيجابيًا إلى حدٍّ ما. عندما بدأت التدفقات في الانخفاض في بداية العقد الفائت، أصبح الوضعُ المالي للبنان أكثر خطورة، ما أدّى ببطء إلى تقويض الثقة في الاستقرار المالي للنظام.

ومع ذلك، ظل سلامة في منصبه، حتى بعد انهيار العام 2019. لقد فعل ذلك لأن الطبقة السياسية كانت تحميه، حيث اعتبرته حارسًا موثوقًا لأسرارها وشخصًا على استعداد للقيام بمطالبها. و، عندما أصبح الحاكم نفسه هدفًا لتحقيقاتٍ مُتعدّدة في أوروبا وأماكن أخرى، شعر السياسيون أن وقته قد انتهى. على الرُغم من أن حمايته استمرت، فقد أصبح أيضًا، بشكل ملائم، مركزًا للغضب العام، ما أدّى إلى صرف الغضب عن السياسيين.

بالنسبة إلى العديد من الناس، جاءت نهاية الحريرية في العام 2022، عندما أعلن سعد الحريري، نجل رئيس الوزراء الراحل، انسحابه من عالم السياسة اللبنانية. ومع ذلك، فإن الإغلاق الحقيقي للكتاب سيكون بخروج سلامة من مصرف لبنان، على وجه التحديد لأن حاكم البنك المركزي مرتبط بنجاحات رفيق الحريري في منصبه، في حين أن سعد، الذي كان غائبًا عن السياسة في التسعينيات في بداية صعود الحريرية، لم يقترب أبدًا من تلك النجاحات.

تم تنصيب سلامة في حاكمية البنك المركزي في العام 1993 من قبل رفيق الحريري بعد أن كان مدير محفظته في شركة “ميريل لينش” المالية. كان المهندس الرئيس، مع رئيس الوزراء آنذاك، للسياسة النقدية التي اعتمدها لبنان في سنوات ما بعد الحرب مباشرة. في تلك الأيام، وصف عدد قليل من الناس أسعار الفائدة المرتفعة المعروضة على سندات وزارة المال بأنها مُخَطَّطٌ “بونزي” (نظام بيع هرمي، وشكلٌ من أشكال الإحتيال)، إلى حدٍّ كبير لأنَّ لبنان كان مزدهرًا بعد سنواتٍ من الصراع.

كان هناك خللٌ خطير في العام 1998، عندما واجهت الحكومة أزمةً مالية بسبب التزامات خدمة الدين، ولكن تمَّ حلُّ ذلك من طريق إصدار سنداتٍ سيادية بالعملات الأجنبية. توسّعَ القطاع المصرفي وحصل سلامة على الاستحسان والتكريم في كل مكان، بما في ذلك حصوله على جائزة “يورومَني” (Euromoney) كأفضل حاكم مصرف مركزي في جميع أنحاء العالم في العام 2006. والتفاؤل المصاحب لبرنامج إعادة الإعمار لرفيق الحريري غمره سلامة، وإذا كان بإمكان أي شخص أن يدعي أنه القلب النابض للحريرية، فقد كان الحاكم.

كما كان سلامة هو الذي أدرك جيدًا بأن النظام المالي في لبنان مبنيٌّ على تحالفٍ بين الزعماء السياسيين الطائفيين وقادة الأحزاب والقطاع المصرفي والذين دمجهم وشاركهم بذكاء في شؤونه. قام المصرفيون بتمويل نظام السياسيين للرعاية السياسية والمجتمعية، وفي المقابل قام السياسيون بحماية مصالح القطاع المصرفي. في قلب هذه العلاقة كان هناك رجلٌ واحد هو سلامة.

رفيق الحريري، الرجل الديناميكي المهم لإحياء وإعادة الإعمار لمرحلة ما بعد الحرب، ولكنه أيضًا شخصٌ لا يمكن الخلط بينه وبين الإصلاحي، فَهِمَ اللعبة. ما لم يتم تطبيق مثل هذا النظام، فقد أدرك أن طموحاته في إعادة الإعمار ستظل رهينةً للطبقة السياسية. لكن كان لديه أيضًا هدفٌ سياسي: كان الحريري دائمًا في حاجة إلى بناء تحالفات لتعزيز خططه، وكان المال هو أفضل طريقة للتغلب على العقبات السياسية.

ولعلّ الأهم من ذلك، أن رحيل سلامة يُغلِقُ كتابَ العودة إلى مثل هذا النموذج. لقد خنقت الطبقة السياسية “الأوزّة” التي وضعت البيضة الذهبية، وهذا على الأرجح يعني نهايةَ نظامٍ مالي واقتصادي لبناني مزدهر يلتفُّ حول مصالحها، كما كان الحال حتى العام 2019. بالتأكيد، سيستمر السياسيون في نهب الدولة بأكثر ما في وسعهم، ولكن مع إفلاس لبنان ورفض السياسيين والمصرفيين للإصلاح، فمن المحتمل ألّا تستعيد البلاد أبدًا ما كانت عليه في التسعينيات.

الحريرية، على الرُغمِ من انتقادها أحيانًا من قبل الاقتصاديين وغيرهم، كانت تتعلق بإحياء لبنان، وإن كان قائمًا على أسُسٍ مالية شديدة الخطورة. مع استعداد سلامة للعودة إلى منزله، فإن الأمر الذي يتركه وراءه هو أن لبنان كان يعيش وهمًا مدمّرًا ذاتيًا، حيث كان حاكم البنك المركزي مديرًا له.

من اللافت أنه عندما تولى منصبه لأول مرة في العام 1992، بدا أن رفيق الحريري يُقدّمُ نوعًا جديدًا من الشخصيات اللبنانية. لم يكن من عائلة سياسية تقليدية، ولم يكن مُرتبطًا بحزبٍ سياسي. كان ادعاء الشهرة ثروة كبيرة وقد وضّح كيف كانت طبقة رجال أعمال جديدة تأخذ دورًا سياسيًا في البلاد. بعد أكثر من ثلاثة عقود، يُظهِرُ مصير سلامة أن هذا التوقّعَ مُبالغٌ فيه، بالنظر إلى واقع الدولة اللبنانية راهنًا. النظامُ الذي ساعد كلا الرجلين على إنشائه مات سريريًا، كما ينبغي أن يكون.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى