متى يَنقُضُ بوتين “اتفاقَ العار” مع بريغوجين؟

محمّد قوّاص*

في 7 تموز (يوليو) الجاري كشفت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية عن لقاءٍ جرى بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس شركة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين. كان ذلك قبل أن يُفاجئ الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو العالم بإعلانه أنَّ بريغوجين الذي قاد التمرّد ضد موسكو في 24 حزيران (يونيو) الماضي ليس في بيلاروسيا بل في روسيا، وقبل أن يعترفَ الكرملين في 10 تموز (يوليو) بحصول هذا الاجتماع بين الزعيم الروسي و”طبّاخه”.

الكَشفُ الفرنسي والبيلاروسي والإقرار الروسي واجهاتٌ تُعَبِّرُ كلُّها عن أزمةِ الحُكم والحاكم في روسيا. فأن يضطرَّ الزعيمُ الروسي إلى عَقدِ اجتماعٍ مع مَن اتهمه بـ”الخيانه العظمى” في 29 حزيران (يونيو) أي بعد 5 أيام من تمرّده، فذلك مؤشّرُ ارتباكٍ وضُعفٍ في رأس السلطة. صحيحٌ أنَّ المرونةَ قد تُفصِحُ عن رشاقةٍ وبراغماتية وخُبثٍ سياسي في إدارة الأزمة، لكنَّ الأمرَ لم يكن يومًا ديدن بوتين والبوتيتية في فلسفة إدارة البلاد والعباد.

والواضح أنَّ بوتين يعيشُ مرحلةً صعبةً داخليًا ودوليًا منذ إطلاق ما تصرّ موسكو على تسميته بـ “العملية الخاصة” في أوكرانيا. فرجل روسيا القوي لم يَعُد كذلك. ظهرت حاجته إلى قوات “فاغنر” في مغامرته الأوكرانية وفَقَدَ الظروفَ الحاضنة للاقتصاص مِمَن تجرّأ، بالقوة العسكرية وعلى الهواء مباشرةً، على الزحف صوب موسكو. ولئن درجت روسيا البوتينية على مُعاقبة معارضيها في الداخل والخارج بأساليب الإبعاد والسجن والاغتيال والاضطهاد، فإن تمرّدًا بهذا الحجم هدّد مكان ومكانة سلطة بوتين يُقابَلُ بلقاءٍ ودود وصفقةٍ غامضة تُعيدُ الاعتبارَ من دون أي لبس، في هذا الوقت على الأقل، لـ”فاغنر” وقائدها.

والأرجح أنَّ بريغوجين الذي يعرفُ جيدًا “سيِّده” يعي تبدّل التوازنات في موسكو بما يفسّر سرّ قدراته على شنِّ موجةٍ من الانتقادات ضد المؤسّسة العسكرية ووزير الدفاع، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان العامة، فاليري غيراسيموف، من دونِ أيِّ رادعٍ من الكرملين. والظاهرُ أن رجل “فاغنر” القوي كان يملك من المُعطَيات، أو على الأقل قرأها على نحوٍ مُبالَغ فيه، بما دفعه، بالسلاسة التي أظهرها علنًا، إلى دفع أرتاله صوب العاصمة. ولئن انتهى التمرّدُ بعد ساعاتٍ من إطلاقه، بقرارٍ من بريغوجين وليس بصدٍّ عسكري، فإن لقاءَ الأخير و35 من قادة “فاغنر” مع بوتين يوافق معطيات بريغوجين ولا يُناقِضُها.

أثبتت “فاغنر” كفاءةً عسكرية فاقت تلك لدى الجيش الروسي في أوكرانيا. واستطاعت معركة باخموت المعقّدة والدراماتيكية أن تفتحَ أعين الكرملين على أن الشركة الأمنية الخاصة التي يقودها بريغوجين باتت رقمًا صعبًا لا يمكن الاستغناء عنها في معركة أوكرانيا. ولئن يختلطُ الخطابُ القومي لـ”فاغنر” بالشكل الارتزاقي للكتلة المقاتلة، فإن صفقة بوتين-بريغوجين أسّست لقواعد شراكة جديدة تُمكّنُ الزعيمَ الروسي من استمرارِ تعويله على حوافز “فاغنر” القومية في أوكرانيا، وتُمكّنُ بريغوجين من استمرار الغَرفِ المالي من صفقاته في العالم، لا سيما في أفريقيا، بما يتّسق تمامًا مع سياسة روسيا الخارجية ولدى الدول التي تُرَوَّجُ فيها أنشطة مؤسّسته الأمنية.

لم يَحظَ تمرّدُ “فاغنر” بأية بيئةٍ حاضنة في العالم. نظرت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الحدث بعينٍ قلقة. لم تُطلق العواصم الغربية أي إشارات شامتة. والأرجح أنها مارست ضغوطًا على كييف لوقفِ أيِّ عملياتٍ داخل الأراضي الروسية تستفيدُ من حدثٍ يصعبُ استشراف تداعياته على موسكو والمتمرّدين عليها. استنتج الخصوم تصدّعًا خطيرًا في نظام الحكم الروسي واستنتج الحلفاء، خصوصًا الصين، ركاكةَ حُكمٍ في موسكو تفرضُ إعادةَ قراءةٍ وترتيبٍ لأدواتِ العلاقة مع روسيا ودرجات التعويل عليها.

بثّت تجربةُ تمرّدِ “فاغنر” إشاراتٍ سالبة لدى الدول المعنية لجهة عدم الاستكانة إلى المؤسّسات الأمنية الخاصة أو المُوازية والتنبّه إلى أعراضها الجانبية الخطيرة. لفتَ الحدثُ إلى صوابية الخيار المركزي لقيادة الجيش في الصين وعدم تمدّد مهمّات الشركات الأمنية الصينية إلى ما يتجاوز حصرية سهرها على أمن العمال والموظّفين الصينيين في الخارج. وإذا ما جرى تدارك انفجار كبير في صدام الجيش الروسي بقوات بريغوجين، فإن تجربةَ السودان هي الأسوَأ في هذا الصدد من حيث ضراوة الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) وصعوبة وتعقّد إيجاد سُبُل التدارك والمُداراة.

يَضَعُ تقسيمُ المهام، وفق ما تسرّب من صفقة الكرملين، جناحًا لـ”فاغنر” تحت سلطة وزارة الدفاع والمؤسّسة العسكرية، فيما يبقى جناحٌ آخر موالٍ لبريغوجين يعمل في بيلاروسيا (لرفع كفاءة جيشها!!) وتستمر مهامه الخارجية الأفريقية خصوصًا. وفي غيابِ قانونٍ روسيٍّ يُنظّمُ عملَ الشركات الأمنية، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت موسكو ستُضفي على أنشطة “فاغنر” في القارة السمراء وغيرها صفةً شرعية روسية، أم أنَّ بوتين ومؤسّسات الحُكم في روسيا ستستمر في ادّعاءِ خطابٍ بليد يزعمُ أنَّ “فاغنر” شركةٌ خاصة لا يخضع قرارها لقرار موسكو. والأمرُ ليس تفصيلًا في حسابات قادة في أفريقيا يستأجرون خدمات قوات بريغوجين وباتوا يخشون على عواصمهم مما كاد يجري على موسكو.

يُدرِكُ العالم أجمع أنَّ تمرّدَ “فاغنر” ليس تفصيلًا عَرَضِيًّا أو سحابةَ صيف. بوتين نفسه يُدرِكُ ذلك وبات على يقين أنَّ السابقة تشي بلاحقٍ بات مُحتَمَلًا. حتى أنَّ اجتماعه مع قادة “فاغنر” ومؤسّسها هدفَ في جانبٍ كبيرٍ إلى وقف الشكوك في قدرته على الحُكمِ ووقفِ أيِّ تموضعٍ مُستجدٍّ مُحتَمَل لشبكةِ المصالح الراعية للحُكم. وما ضَخُّ أسلحة نوعية ثقيلة باتجاه الحرس الوطني الروسي (المُناط به الدفاع عن الكرملين وبوتين ونظامه)، ومن ترسانة “فاغنر” بالذات، إلّا دليلٌ على مستوى الهواجس التي ارتفعت في موسكو وباتت تتطلّبُ تغليظ سواعد الحرس للتصدّي لما تحمله الأيام السوداء ضد الكرملين وساكنه.

ولئن يتوقّعُ مدير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، وليام بيرنز، أن ينتقمَ بوتين من بريغجوجين لاحقًا، فإنَّ بريغوجين نفسه يعرفُ ذلك، ما يشي باندلاعِ حربٍ باردة داخل النُخبة الحاكمة التي ثبت أنَّ لزعيم “فاغنر” داخلها نفوذًا وامتداداتٍ مُقلقة. لا يُمكن لبوتين أن يَقبَلَ بـ”اتفاقِ العار” مع “طبّاخه” سيكون سابقة تسيلُ لها لِعابُ الطامحين. وفي موسكو هناك مَن يسمعُ كثيرًا من الهمس الأسود خلف الجدران.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى