ماذا لو انتَصَرَ بوتين؟

كابي طبراني*

ما يَحدُثُ في أوكرانيا لن يبقى في أوكرانيا. هذا هو جَوهَرُ الحجّة الشائعة حَولَ سببِ وُجوبِ قيامِ الولايات المتحدة والدول الأخرى بدعمِ كييف في مقاومة العدوان الروسي. وكما قال الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” مارك ثيسن: “الفشلُ في إنقاذِ أوكرانيا من شأنه أن يُقَوِّضَ مصداقيتنا في الدفاع عن تايوان، وبالتالي يجعل الحرب أكثر احتمالية”. وردّدت ممثلة تايوان في واشنطن، بي كيم هسياو، هذا الرأي قائلةً: “بقاءُ أوكرانيا هو بقاءُ تايوان. نجاحُ أوكرانيا هو نجاحُ تايوان. إن مستقبلَ دولتَينا يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا”. وقامت السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة والمُرشَّحة الرئاسية الحالية، نيكي هايلي، بتوسيع الجدل في حواراتِ حملتها الانتخابية أخيرًا، قائلةً: “هذا أكبر من أوكرانيا … عندما تنتصر أوكرانيا، يُرسِلُ هذا رسالةً إلى الصين التي تريد غزو تايوان، وإلى إيران التي تُريدُ صنع قنبلة نووية، وإلى كوريا الشمالية التي تختبر صواريخ باليستية، ويبعثُ برسالةٍ إلى روسيا مفادها أنَّ الأمرَ قد انتهى”.

هل حقًا أنَّ الفشلَ في إيقافِ روسيا في أوكرانيا ستكونُ له مثل هذه التداعيات على مستوى العالم؟ هل ستكون له عواقبٌ وخيمةٌ على سُمعةِ ومصداقيةِ دعم واشنطن لحلفائها لدرجةٍ أنه سيُعطي بكين العُذرَ لغزوِ تايوان، أو تشجيع إيران في سعيها لامتلاكِ سلاحٍ نووي، أو إعطاء دولٍ عدّة الانطباع بأنها تستطيع السعي وراء مصالحها من طريق العدوان مع الإفلات من العقاب؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة كَلّا النافية لثلاثة أسباب:

أوّلًا، من المُهِمِّ الأَخذ في الاعتبارِ نَوع السابقة الذي قد يُحدّدهُ نصرٌ روسي نهائي. لنَفتَرِض أنَّ روسيا استفادت في النهاية من غزوها، مثل الحفاظ على سيطرتها على الأراضي المحتلة التي تدّعي الآن أنها ضمّتها في شرق وجنوب أوكرانيا. ستكون حقّقت ذلك مع تكبيدِ أضرارٍ جسيمة لجيشها وإلحاقِ أضرارٍ باقتصادها، وكلاهما يرجعُ إلى حدٍّ كبيرٍ إلى الإجراءات التي اتّخذتها أميركا وحلفاؤها في هذه المرحلة. ولن يُشَكِّلَ هذا الأمرُ سابقةً للإفلات من العقاب. على العَكسِ من ذلك، فإنَّ الدَرسَ الذي يُمكِنُ لأيِّ دولةٍ أُخرى تُراقِبُ من الخطوطِ الجانبية هو أنَّ السعي إلى تحقيقِ مكاسب إقليميّة حدودية ضد دولةٍ شريكة أو حليفة للولايات المتحدة قد يتسبّب في تدمير جيشها وتدمير اقتصادها.

سيكونُ هذا أكثر وضوحًا في حالة غزو صيني مُحتَمَلٍ لتايوان. بخلافِ رغبة بكين في السيطرة على الجزيرة بالطريقة نفسها التي أرادتها موسكو لغزو أوكرانيا، فالأوضاع مختلفة تمامًا بين الحالتين. بدايةً، تشتركُ روسيا وأوكرانيا في حدودٍ برّية مُسَطَّحة لم تُشكّل أي عقبة أمام الغزو الروسي الأوَّلي أو العمليات اللاحقة، إلى جانب الوحول التي عرقلت دباباتها وعرباتها المدرّعة في الأسابيع الأولى من الهجوم. في المقابل، تفصل الصين وتايوان 100 ميل من المياه، ما يعني أنَّ أيَّ غزوٍ سيتطلّب هجومًا برمائيًا – وهي مهمّة لوجستية هائلة تُعتَبَرُ من بين أصعب العمليات العسكرية.

وبالتالي فإن احتمالية النجاح أمرٌ مشكوك فيه، ولكن حتى في حالة الانتصار الصيني، فمن شبه المؤكّد أنَّ البنية التحتية لتايوان ستتعرّض لدمارٍ هائل، ما يُقلّل من قيمة الحصول عليها في المقام الأول. أيُّ محاولةٍ يجب أن تأخذ في الحسبان خسائر كبيرة للقوات البحرية والجوية الصينية، خصوصًا إذا تدخّل الجيش الأميركي بشكلٍ مباشر في القتال. ثم هناك الضرر الاقتصادي الذي قد تتعرّض له الصين بسبب العقوبات التي يُتَوَقَّعُ أن تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها. ربما لا تزال بكين تريد غزو تايوان، لكن يجب أن تكون مستعدة للقيام بذلك بتكلفة باهظة.

السببُ الثاني للمبالغة في التأثير الأوسع لانتصارٍ روسي في أوكرانيا يتعلّقُ بكلمتين كانت سائدتين في السياسة الخارجية الأميركية: نظرية الدومينو. كانت حجّة حقبة الحرب الباردة ترى أنَّ السماحَ لأيِّ بلدٍ بالسقوطِ في قبضةِ الشيوعية من شأنه أن يُشجّعَ ويُحفّز الجماعات الثورية –ورعاتها الخارجيين– في البلدان المجاورة الأخرى، ما يسهل انتشار الشيوعية فيها. لمنع الدومينو الشيوعي من الوصول إلى فيتنام، أنفقت الولايات المتحدة موارد عسكرية ومالية هائلة هناك لأكثر من عقد من الزمان. فشلت واشنطن في نهاية المطاف في منع البلاد من “التحوّل إلى الشيوعية”، ولكن ما عدا لاوس المجاورة، لم تصل أحجار الدومينو إلى بلدانٍ أخرى كما كان يُخشى. لم يكن لسقوط سايغون أيّ تأثيرٍ حقيقي في أيٍّ من صراعات الوكلاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي التي أعقبت ذلك، وحتى قبل انتهاء الحرب الباردة، كانت نظرية الدومينو تُعتَبَرُ إلى حدٍّ كبير أنها فقدت مصداقيتها.

وبالمثل، فإن الفشلَ في طرد روسيا بالكامل من الأراضي التي تحتلها حاليًا في أوكرانيا لن يكون حافزًا لفشل السياسة الخارجية الأميركية في أماكن أخرى. هذا لا يعني أن أميركا لن تواجه أي انتكاسات في الملفات الأخرى. ولكن في حالة حدوثها، فسيكون ذلك بسبب ظروف خاصة بتلك الملفات، وليس النتيجة في أوكرانيا.

ثالثًا ومُرتَبط، من المهم أن نتذكَّرَ أنَّ “السُمعةَ” و”المِصداقية” هما من المفاهيم المشكوك فيها منطقيًا في السياسة الدولية. إنَّ الفكرةَ القائلة بأنَّ السُمعةَ مهمّة ترتكز على نظريةِ أنَّ السياسة الدولية هي سلسلة تفاعلات متكررة بين مشاركين هم على دراية بسلوك بعضهم البعض، لذا فإن الطريقة التي تتصرّف بها أي دولة في موقفٍ ما يمكن أن تشكل التوقعات لكيفية تصرّفها في موقفٍ آخر. مع وجود أقل من 200 دولة في النظام الدولي، هناك في الواقع العديد من الفُرَصِ للتفاعلات المتكررة في ما بينها والتي ستؤدي إلى تكوين السُمعة.

لكنَّ السُمعةَ لا يُمكنُ أن تكونَ مُفيدةً في إدارةِ الشؤون الدولية إلّا إذا كانت ظروفُ كلّ موقفٍ لا تختلف، أو إذا كانت مصالح الدولة لا تختلف من موقفٍ إلى آخر. هذا ببساطة ليس هو الحال. لقد جادل جيمس مورو، خبير العلاقات الدولية المعروف بعمله حول كيفية تحليل التفاعلات الاستراتيجية في السياسة الدولية، أنه نظرًا إلى أنَّ “العواملَ الأخرى تختلفُ دائمًا” من حالةٍ إلى أخرى، يُمكِنُ في أحسنِ الأحوال استخلاصُ استنتاجاتٍ “ضبابية” حول الدور، إن وجد، الذي تلعبه السُمعة. عند مناقشة حرب فيتنام، كتب مورو، “إنَّ فشلَ الولايات المتحدة في التدخّل ووقف سقوط الحكومة الفيتنامية الجنوبية في العام 1975 لم يَقضِ على الاعتقاد بأنها ستقاتل للدفاع عن أوروبا الغربية من الغزو السوفياتي”.

مع ذلك، هناك للأسف “عبادةٌ للسُمعة” في السياسة الدولية. لذلك على الرُغمِ من أن السُمعةَ لا تؤثّرُ في قرارات الأعداء، فإنَّ القادةَ غالبًا ما ينخرطون في أعمالٍ للدفاع عن سُمعةِ دولهم من منطلق اعتقادهم أنه ينبغي فعل ذلك. وهذا يمكن أن يؤدي بالدول إلى استخدام القوة، لا لسببٍ سوى إظهار قدرتها واستعدادها لاستخدام القوة. لكن المنطق القائل بأنَّ مثل هذه الأفعال في سياقٍ ما ستقود الخصوم إلى استخلاصِ استنتاجاتٍ حول أفعالٍ مُحتَملة في سياقٍ آخر أمرٌ مشكوكٌ فيه في أحسن الأحوال. لقد تناول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما هذه العقلية في مقابلةٍ قرب نهاية فترة رئاسته، عندما قال إنَّ “إلقاءَ القنابل على بلدٍ ما لإثباتِ أنك على استعدادِ لإلقاءِ القنابل على دولةٍ ما هو أسوأُ سببٍ أو حجّةٍ لاستخدام القوة”.

الواقع أن هناكَ أسبابًا وجيهةً لدعم أوكرانيا. إنَّ منعَ روسيا من ارتكابِ المزيدِ من الفظائعِ في مجال حقوق الإنسان، والتي وَجَّهَت على أساسها المحكمة الجنائية الدولية بالفعل لائحة اتهام ضد الرئيس فلاديمير بوتين، هو أحد هذه الأسباب. علاوةً على ذلك، من المُحتَمَل أن يؤدّي الفشل في دعم أوكرانيا إلى تشجيع بوتين على السعي إلى مزيدٍ من تقويضِ الأمن الأوروبي، من مولدوفا إلى دول البلطيق وربما أبعد من ذلك. لكن في حين أن هزيمة أوكرانيا ستكون سيئة للغاية، فلن تكون لها تداعيات خطيرة خارج أوروبا.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى