لبنان وأزمَةُ اللّجوءِ السوري
الدكتور ناصيف حتّي*
تَعودُ قَضِيَّةُ اللّاجئين السوريين بقوّةٍ إلى واجهةِ الأحداثِ في لبنان لجُملَةٍ من الأسباب: أوّلُها الوَضعُ الاقتصادي الكارثي الذي يعيشه البلد، والانسدادُ الحاصلُ أمامَ احتمالِ الخُروجِ من النَفَق. الكلُّ ينتظرُ الانتخاباتَ الرئاسية لتبدأ عمليّةُ الإنقاذِ الوطني. العمليّةُ التي دونها الكثير من التحدّياتِ والشروطِ الواجبِ توفيرها من أهلِ السلطة أيًّا كانت الاصطفافاتُ الحاصِلة ولعبةُ تبادلِ المسؤولية في ما هو حاصلٌ، وفي ما وصلَ إليه لبنان. وأعتَقِدُ أنَّنا ما زلنا بَعيدين من توفيرِ الشروطِ المَطلوبةِ لبنانيًّا للإنقاذ. فالصراعُ قائمٌ حولَ الشخصِ الذي يُطَمئنُ هذا الطرف أو ذاك، وليس حولَ الالتزامِ ببرنامجِ إصلاحٍ واضحٍ لإنقاذ لبنان من السقوطِ الكُلِّي.
ثانيًا، صحيحٌ أنَّ الأزمةَ اللبنانية التي أَشَرنا إليها ليست وليدةَ مشكلةِ النزوحِ السوري، بل هي نتيجةُ تراكمِ سياساتٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ تُعبِّرُ خَيرَ تَعبيرٍ عن طبيعةِ السلطةِ السياسيّةِ في لبنان وأدائها. ولكن هذا الأمر زادَ من وطأةِ الأزمةِ بسببِ حجمِ النزوحِ الذي يبقى كبيرًا نسبةً إلى عددِ السكان، وضاغطًا لعدمِ قدرةِ لبنان على تحمّلِ تداعياته و تكلفته. وسَمَحَ للبعضِ عن قصدٍ (سياسي أو غيره) أو عن غيرِ قصدٍ من تحميلِ النزوحِ واعتباره السبب الرئيس للأزمة الاقتصادية بتداعياتها الاجتماعية وغيرها الحادّة التي يعيشها لبنان. وهذا طبعًا ليس بالأمرِ الصحيح كما أشَرنا سابقًا، ولكن كما يذكرُ المثلُ الشعبي فإنَّ الفقرَ يُعلِّمُ النقار .
ثالثًا، لا بدَّ من التذكيرِ بالاختلافِ الكبيرِ في احتسابِ عددِ اللاجئين السوريين في لبنان، بسببِ القصورِ الفاضحِ والواضحِ في التعاملِ العلمي والموضوعي مع هذا الأمر منذ بدايته، ما أدّى إلى فجوةٍ كبيرةٍ في احتسابِ العددِ بَينَ الأطرافِ المَعنيّة، والتسييسِ الذي تبعَ ذلك أو عُبِّرَ عنه. وزادَت في ذلك الأوضاعُ السياسيّة والأمنية وغيرها، إضافةً إلى ضعفِ وهشاشةِ دور الدولة، الأمرُ الذي سمحَ ويَسمَحُ للعديدين من التنقّلِ بين لبنان وسوريا، رُغمَ أنَّ ذلكَ يُسقِطُ صفةَ اللجوءِ عن الشخصِ الذي يقومُ به من دونِ أن يحصلَ ذلك بالفعل للأسبابِ التي ذكرناها.
رابعًا، رُغمَ أنَّ لبنان ليس عضوًا في الاتفاقيةِ الخاصّةِ باللّاجئين لعام١٩٥١، ولا في البروتوكول الصادر في العام ١٩٦٧، الإتفاقيةُ التي تقومُ على العودةِ الطَوعيّةِ للشخص اللاجئ، ولكن لبنان يلتزمُ ب”مبدَإِ عدم الإعادة القسرية” (principe du non refoulement). ويؤكّدُ على مبدَإِ العودةِ الآمنةِ والكريمةِ والتدريجيةِ للنّازح (التوصيفُ المُستَعمَلُ رسميًّا للشخص اللاجىء) بسببِ ما أشرنا إليهِ سابقًا.
خامسًا، إنَّ التطوّرات الحاصلة من حيثُ عودةِ سوريا إلى جامعةِ الدول العربية، التي جاءت بَعدَ مسارِ تطبيعِ العلاقاتِ السورية العربية ثُنائيًا بسرعاتٍ وأشكالٍ مُختلفة، وانتهاءِ الحربِ في سوريا، رُغمَ عدم انتهاءِ الحربِ حولَ سوريا واستمرار الصراع بالوكالة في بعض المناطق الذي يتغذّى ويُغذّي نزاعاتٍ ما زالت قائمة. كلّها تطوّراتٌ تُعطي قوّةَ دَفعٍ كبيرةٍ لاعمال مبدَإِ العودة الآمنة والتدريجية للنازحين الذي أشَرنا إليهِ سابقًا .
سادسًا، رُغمَ الهوّة القائمة بين موقفِ المنظّماتِ الدوليّةِ المَعنيةِ بقضيّةِ اللجوءِ من جهة، ومعها قوى دولية تدعمها لأسبابٍ مُختلفة، منها ما هو سياسيٌّ يتعلّقُ بحاضرِ العلاقاتِ مع سوريا ومع مُستَقبلِ تلك العلاقات، والموقف اللبناني من هذا الأمر من جهةٍ اخرى، فإنَّ هناكَ مسؤوليةً لبنانيةً أساسيّةً لبَلوَرَةِ موقفٍ فعليٍّ وعمليٍّ واحدٍ ليكون موقفًا فعّالًا أمامَ “مؤتمر بروكسل لدَعمِ سوريا ودولِ الجوار”، في دورتهِ السابعة التي تنعقدُ في١٤ و١٥ من الشهر الجاري. موقفٌ تُبنى عليه ديبلوماسية ناشطة لاحقًا على الصعيدَين الرسمي والعام، يستندُ إلى ما أشرنا إليهِ من معطيات. موقفٌ يَستَدعي دعمًا عربيًا، لأنّهُ لا يتعلّق فقط بلبنان، في إطارِ العلاقاتِ العربية العائدة مع سوريا، وليكون من البنود الرئيسة في إعادةِ بناءِ هذه العلاقات بُغيةَ تسهيلِ عمليةِ العودةِ الآمنةِ والكريمةِ والتدريجيةِ للّاجئين السوريين إلى بلدهم.
إنَّ مُعالجَةَ هذه المشكلة الإنسانية أوّلًا، والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بتداعياتها المختلفةِ الأوجهِ والأبعاد ثانيًا، مسؤوليةٌ لبنانيةٌ في المقام الأول، لكنها مسؤوليةٌ عربيةٌ أيضًا في ما يتعلق بلبنان كما بالدول العربية الأخرى المَعنية للإسهامِ في توفيرِ الاستقرارِ المنشود والمطلوب في أحَدِ أهَمِّ جوانبِهِ وأبعادِه.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).