بَينَ القاصِرِ والسَفِيه

راشد فايد*

إنسَ أنك لبناني، وبَرِّد عواطفك الوطنية العمياء، وتَرَفّع عن القال والقيل السياسي السخيف المُسَيطر على البلد، ولعبة الجمع والطرح “الرئاسية”، وسل نفسك يوم الأربعاء، بعد ارفضاض مجلس النواب، ووضوح فشله في انتخابِ رئيسٍ للبلاد، هل نحنُ شعبٌ فَقَدَ القدرةَ على إدارة شؤونه بنفسه، وصارت الوصاية عليه أمرًا محتومًا، وقدرًا لا راد له؟

يرهن أكثر من نصف اللبنانيين الجواب بهوية “الوصي”، ليأسهم من الطبقة السياسية، وقنوطهم من وَعيٍ مفاجئ يوقظها على فداحة مآلات الأزمات الداخلية المتنوعة، “المُبيدة” لأيِّ تفاؤلٍ بمستقبلِ بلادٍ لا يليق، في حالتها، الكلام على “دولة”، ولا على “وطن”، بل على “محطة” ينتقل منها “الركّاب” إلى أربع جهات الأرض بحثًا عن مَعيشةٍ أفضل.

في البداية، ومع إعلان الاستقلال، كانت “الرعاية” الفرنسية “تسهر” على حبو لبنان الوليد، ويستقي منها حتى دستوره، وبناء مؤسّسات الدولة فيه، زمن الرئيس فؤاد شهاب. ثم لحق به عهد شارل حلو، ليبدأ التسرّب الفلسطيني المسلّح بعد صداماتٍ دموية في الأردن، في ظل “التضامن العربي- الإسرائيلي على لبنان وفلسطين” (كتاب لهنري حاماتي الكاتب السياسي، والمنظّر ألإيديولوجي).

دخل المقاتلون الفلسطينيون لبنان، من الأردن عبر سوريا وبتشجيعها، على طريقة مدمن الحرائق التي يشعلها ليعمل على إطفائها باسم “الأخوّة والشعب الواحد في بلدين” وصولًا إلى الإستفراد في ما يشبه التمهيد للضم على طريقة الاتحاد السوفياتي وبيلاروسيا في الأمم المتحدة: دولتان ومقعدان بموقف واحد، إلى حدٍّ دفع بوزير الخارجية المصري، آنذاك، في أحد المؤتمرات العربية، إلى التمنّي على زميله اللبناني، حينها، أن يعطي رأيه ولو مرة من دون انتظار كلام نظيره السوري.

يصلحُ ذلك نموذجًا لـ”ترجمات” الوصاية السورية، التي نجحت في الاستفراد بالبلد، بعد انسحاب “قوات الردع العربية”، وتغاضى “الإحتضان العربي” عن دوره، إلى أن سقط الرئيس رفيق الحريري شهيدًا في 14 شباط (فبراير) 2005، وفتح اغتياله الطريق لتطبيق القرار 1559 الذي كان ولد في 2 أيلول (سبتمبر) 2004 وشدّدَ على ضرورة تطبيق كل قرارات مجلس الأمن السابقة الداعية إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان.

عمليًا، أعلن المجلس تجديد وصاية دولية على بلد الأرز، كان سكت عن “اغتيالها” في مقايضة أميركية مع الأسد الأب: يشارك في “التحالف الدولي” لتحرير الكويت، مقابل إعادة تحكّمه بلبنان.

جدد صدور القرار 1559 الحديث على “إتفاق الطائف” (أيلول/سبتمبر 1989) بعدما تجاهلته دمشق، وأرادت طي صفحاته، ليستمر نظام الخطوط الحمر السوري–الإسرائيلي الذي وضعه هنري كيسنجر، في العام 1976 “مرجعية” نفوذ الطرفين في لبنان، إلى أن أخرجت المقاومة الوطنية الجيش الإسرائيلي من الجنوب في 25 أيار (مايو) 2000، وانسحب الجيش الأسدي في 26 نيسان (إبريل) 2005 تحت ضغط الاستنفار الشعبي اللبناني، المُطالِب بالسيادة الوطنية.

اليوم، بعد 11 جلسة نيابية، فاشلة، لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية لا يمكن إلّا استنتاج عمق عجز المؤسسات الدولتية، عن القيام بما يمليه الدستور والقوانين، وعدم جدية القيمين على تطبيقها، بدءًا بمجلس النواب الذي يُذكّرنا بانتمائنا إلى العالم الثالث، وما دونه، وإلّا كيف نفسّر استمرار “اعتقال” هنيبعل القذافي لـ 10 سنوات، بلا محاكمة بجريمة “ارتكبها” وهو بعمر 5 سنوات، من دون أن نتجاهل “الإسلاميين” الذين لم يحاكموا بعد، ومن أمضوا مسجونيتهم ولم يطلقوا بعد، لأسبابٍ إدارية.

دولة تعلن عجزها كل يوم، بخرق القوانين ونحر الحقوق، فيما المفترض أن تشع باحترام “الكتاب” كما كان يقول فؤاد شهاب.ألا تحتاج إلى وصاية؟

تكون الوصاية، شرعًا، على القاصر وعلى السفيه، الأول معروفة مشكلته اجتماعيًا، والثاني يقول “السيد غوغل” أنه الذي ليست له حالة باعثة على حفظ ماله والاعتناء بحاله فيصرفه في غير موقعه ويتلفه بغير محله.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى