“الديموقراطيةُ” في أعرافِ السِلاح

محمّد قوّاص*

يَطيبُ ل”حزبِ الله” في لبنان التأكيد بأنّهُ حِزبٌ لبنانيٌّ يُمثّلُ شريحةً مُجتَمَعيّة وسياسيّة على منوالِ ما تُمثّلهُ أحزابٌ أُخرى في هذا البلد. يتلطّى الحزبُ خلفَ هذه اللافتة “الديموقراطية” التي يُفترَضُ بها أن تُفحِمَ خصومَهُ وأن تُحرِجَ حتى المعارضة الشيعية التي تردُّ عن الحزب تهمةَ مَن يصفه بأنَه قوّةُ احتلالٍ تابعٍ لدولةٍ أجنبية.

امتَهَنَ الحزبُ حِرفةَ السياسة بمعناها التقني. انتقلَ من مهامه “المقاوِمة” إلى مهامٍ دستورية، أوّلًا داخل قبّة مجلس النواب (البرلمان)، وتاليًا داخل حكومات لبنان، وثالثًا حِينَ راحَ، في مناسباتٍ ومفترقاتٍ، يُلوِّحُ، وما زال، بمؤتمرٍ دستوري يُغيِّرُ شكلَ النظامِ السياسي وخرائط توزيع السلطة التي نصّ عليها اتفاق  الطائف المُبرَم في العام 1989، والذي أنهت بنوده الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).

وكما باقي الأحزابِ والتيّاراتِ والتحالفاتِ السياسية، يُمارِسُ الحِزبُ اللعبة السياسية وِفقَ أدواتٍ تقليدية يُمارسها الآخرون. ينخرطُ في كافةِ الانتخابات (نقابية أو بلدية أو تشريعية)، يستخدمُ الخطابَ المُباشر في تجمّعاته ومن خلال وسائل الإعلام، ويُناوِرُ داخلَ تحالفاتٍ مَوضَعية وعامة، ويشهرُ لغّة الحجّة والموقف واللسان، حتى أنه، للمفارقة، يروحُ باتجاهِ القانون أحيانًا والشكوى والطعن أحيانًا أخرى، وينهلُ من عدّة الشغل المُتاحة طالما الهدف لا يستحقُّ فَتحَ خزائن عدّة من بارود ونار يمتلك حصرِيتها.

فرنسا نفسها، ومن خلال رئيسها إيمانويل ماكرون، تعاملت مع الحزب من زاويةِ أنّه حزبٌ شرعي يمثّل ما يمثّل داخل مؤسّساتِ لبنان التشريعية والتنفيذية وباقي  خرائطه في السياسة والأمن والاقتصاد. تشاطرت باريس على اللبنانيين، لكنها تذاكت أيضًا على الأوروبيين والغربيين الذين دَرَجَ كثيرهم على وضعِ الحزب على لوائح الإرهاب.

وإذا ما غَمَزَت باريس في مُقاربتها، باستمرار تواصل سفيرتها وموفديها مع الحزب، من قناةِ حمايةِ القوّات الأُممية في جنوب لبنان بما فيها القوة الفرنسية، فإنَّ القضاءَ العسكري اللبناني أصدرَ في الأول من أيار (مايو) الجاري قرارَ اتهامٍ بحَقِّ 5 عناصر من “حزب الله” و”حركة أمل” -أحدهم موقوف- بجريمة القتل العمد في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2022 لجندي إيرلندي من قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) في منطقة العاقبية جنوبي لبنان. وفي الأمرِ دليلٌ على هراء الحجّة الفرنسية، وعدم حرج الحزب في استهداف القوات الأممية إذا ما تطلّبت حساباته ذلك.

تَقومُ “لبنانيةُ” الحزبِ وسلوكه السياسي “الديموقراطي” التمثيلي داخل الهياكل الدستورية اللبنانية على ثابتَين يُسَخَّران من أيِّ متحوّلٍ في اللعبة البرلمانية والحكومية والرئاسية.

أوَّلُ الثابتين، هو ولاءُ الحزب لإيران. الأمرُ عقيدةٌ تكاد تكون فقهًا في معنى وجوده في ما أعلنه الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، في 24 حزيران (يونيو) 2016 مِن مَدَدٍ تُوَفّرهُ إيران يطال “موازنة الحزب ومعاشاته وسلاحه وصواريخه”، وفي ما أعلنه في العام 2008، وما برحَ يُردّده، من ولاءِ الحزب للوليّ الفقيه. وعلى هذا الأساس، فإنَّ الحزبَ لبنانيُّ الهَوِيّة إيرانيُّ الهَوى والولاء.

ثاني الثابتَين، هو نهائيةُ سلاحه واعتبارُهُ غايةً تُبرّر أيَّ وسيلة، بما في ذلك استخدام السلاح نفسه من أجل حمايته. ويأتي السلاحُ هنا ليس بالمعنى “الفيزيائي”، بل بمَنطِقِه وبعادية الاستعانة به في ما شهده البلد من سلسلةِ اغتيالاتٍ أدانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على الأقل عناصرَ تابعةً له بجريمة قتل الرئيس رفيق الحريري، مرورًا بعملياتٍ أمنية وعسكرية أشهرها تلك في 7 أيار (مايو) 2008، كما روتينية استخدام الميليشيات أو “القمصان السود” للترويع العام أو قمع الحراكات الشعبية، لا سيما تلك التي شهدتها “ثورة 17 تشرين الأول/ اكتوبر” 2019 وما بعدها.

وِفقَ ثوابت لا يَجهدُ الحزبُ لتفسيرِها أو تبريرها أو إنكارها تقومُ مُفردات السياسة التي يمارسها في لبنان. ومع ذلك يتردّدُ في الداخل بأنه حزبٌ عاديٌّ كبقيةِ الأحزابِ في البلد، وتجترح فرنسا وغيرها فكرةَ واقعه الشرعي التمثيلي داخل المجتمع اللبناني. ولئن يخوضُ الحزبُ لعبةَ الانتخابات لتحديد الأحجام البرلمانية، غير أن المحصلة وموازين القوى لم تُحَدّدها يومًا النتائج التي تخرجُ من صناديق الاقتراع، فذلك تفصيلٌ هامشِيٌّ لا يصمدُ أمامَ وَهجِ القوّة التي يفرضها “الأهالي” تارةً، والميليشيا المسلّحة تارةً ثانية، والتلويحِ بسوابقٍ نُسبت إلى سجلّه من فظائع تارةً ثالثة.

تذهبُ كل القوى السياسية اللبنانية إلى سقوفٍ عالية في الخطابِ السياسي المُتَعَلِّقِ هذه الأيام بانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. تتبارى المنابرُ في طَرحِ مُواصفاتٍ للرئيس العتيد، أو اقتراحِ مُرَشّح أو رَفضِ آخر. غير أنَّ “حزبَ الله” وحده يذهب إلى سقوفٍ إقصائيّة في التخوين والعَمالة وتَوجِيهِ التُهَمِ بمؤامرةٍ للإطاحة بمرشّح “المقاومة” (سليمان فرنجية). حتى أنَّ صحيفةً شبه ناطقة باسم الحزب لم تتردّد بنبشِ صورةٍ تجمعُ مُرَشَّح المعارضة للرئاسة جهاد أزعور بالوزير الراحل محمّد شطح الذي لطالما وُجِّهَت الاتهامات للحزب باغتياله في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2013، بما أوحى بالتلويحِ بمصيرٍ مُماثل لمَن يقف ضد إرادة الحزب في رئاسيات البلد.

لا تملكُ الأحزابُ اللبنانية ما يملكه “حزب الله” ويُفاخِرُ به ولا يواريه من أدواتٍ سبق أن أجاد استخدامها. ولا يبدو أنَّ فتحَ سفارةٍ لإيران في السعودية بعد شهرين على اتفاق البلدين في بكين قد بدّل من عدّة الشغل التي لا يعرف غيرها حزب إيران في لبنان.

ومع ذلك فإنَّ الحزبَ يُراقِبُ وبستنتجُ بحسرةٍ بأنَّ العالمَ قد تغيّرَ ولم يَعُد بالإمكانِ فَرضِ مرشّحه في قصر بعبدا على منوال ما حققه في العام 2016 حين لم يخل الطريق إليه إلّا بعد انتخاب ميشال عون رئيسًا. ولئن قد تفشل التحوّلات في داخل لبنان والعالم طموحات مرشّحه الحالي، سليمان فرنجية، فإن الحزبَ يعوّلُ على تعطيلِ مسعى المُرشَّح المنافس، جهاد أزعور. وللأمانة أجاد الحزبُ حرفةَ التعطيل بانتظارِ أن يأتي فَرَجٌ من طهران، ووفق مصالح وتوقيت إيران، يُعيدُ ترتيب المواقف “الراعدة” داخل أجندةٍ لا علاقة للبنان بها.. نعم هذا مثالٌ للوفاء والولاء ولو كره الكارهون.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى