أشهرٌ سبعة من الفَراغِ الرئاسي… إلى أين؟

الدكتور ناصيف حتّي*

إنَّ مسارات التطبيعِ المختلفة في المنطقة وما حملته من انفراجاتٍ، وقد شاهدنا أبرز تجلّياتها في القمّة العربية الأخيرة التي استضافتها المملكة العربية السعودية (خصوصًا عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية كما اللغة التي اتّسم بها بيان القمة حول القضايا الرئيسة في المنطقة)، قد حلّت محلَّ التوتّرات والمواجهات في العلاقات بين خصومِ وأعداءِ الأمس، وأوجدت مناخًا إيجابيًا  في المنطقة. مناخٌ لا بدَّ أن يتكرّسَ ويَتعزَّزَ مع الوقتِ لأنَّ حصولَ ذلك هو لمَصلَحَةِ الجميع إقليمًا ودولًا. هذا المناخُ الجديد يُفتَرَضُ أن يستفيدَ منه لبنان إذا ما صفت وصحت النيّات ووجدت الرؤية لإطلاقِ مسارِ الإنقاذ الوطني: المسارُ الذي هو مسؤولية  لبنانية اساسًا. ورُغمَ أنَّ تفاهمَ الأطراف الخارجية المؤثّرة في لبنان هو عنصرٌ مُساعدٌ وضروري، فإنّه ليس بديلًا من تفاهمٍ داخليٍّ فعليٍّ وليس صوريًا أو مجرّد انعكاسٍ لتفاهمٍ خارجي كما تعوّدنا في الماضي: يتغيّرُ اللاعبون ولا تتغيَّر اللعبة كما يقال.

إنَّ إنقاذَ لبنان حاليًا يتطلّبُ تَغييرَ “قواعد اللعبة”. فالتسويات الموقتة والتي تبرز هشاشتها أمامَ أيِّ تحدٍّ كبيرٍ وتسقطُ بانتهاء مفعول التفاهم الخارجي الذي أوجدها، والتي كانت تقوم على سياسات التسويف وشراء الوقت واللجوء الى المراهم بدل العلاج المطلوب، هذه التسويات لم تَعُد تجدي لبنان الذي تحوّلَ إلى “دولةٍ فاشلة”. دولةٌ تعيشُ تحدّيًا وجوديًا يستدعي جراحةً إصلاحيةً شاملة ولو بشكلٍ تدرّجي لإنقاذ “المريض” من الموتِ البطيء.

أبرزُ تجلّياتِ الأزمةِ اللبنانية المُتعدّدة الأسباب، ومنها المالي والاقتصادي و السياسي، وهي أسبابٌ مُترابطة تُغذّي وتتغذّى على بعضها البعض، الفراغُ الرئاسي وهو يكمّل شهره السابع. نشهد رهاناتٍ على لعبة توازنات القوى التي ستسمح بانتخابِ رئيسٍ مقرَّب أو مُنتمٍ إلى هذا الطرفِ أو ذاك، يرتبط فيها المُتغيّر الخارجي مع المتغيّر الداخلي ضمن لعبة الرهانات هذه. ونسمعُ عن توازنٍ جديدٍ تنتجه العلاقة المتغيّرة في لعبة المتغيّرات المتحرّكة والرهانات التي تحملها. ويمضي الوقت وتزداد تكلفة الإنقاذ الضروري والمؤجّل بسبب الصراع حول “قالب الحلوى” الرئاسي. إنها لعبةُ عضِّ الأصابع بانتظارِ مَن سيصرخ أوّلًا. ونسمعُ عن مُقتَرَحٍ “توازني”: رئيسٌ قريبٌ من هذا الطرف مقابل رئيس حكومة قريب من الطرف الآخر. مُقترَحٌ يُنذِرُ بأزمةٍ وشللٍ عند أوّل مُفترَق طرق أو تحدٍّ أساسي تجب مواجهته، والأمثلة معروفة في هذا المجال، وقد يُشكّلُ مصدر اختلاف لأسبابٍ “استراتيجية” عند طرفَي المعادلة. وتبدو معادلةُ الطمأنة المُتبادلة بشكلٍ استباقي في هذه الصيغة حاملةً لمخاطر شلل وأزمات عديدة لاحقًا.

بعثةُ صندوق النقد الدولي التي زارت لبنان في آذار (مارس) الماضي ذَكّرتنا بما صار معروفًا وهو أنَّ لبنان يقفُ حاليًا على مُفترَقٍ خطير، ومن دونِ إصلاحاتٍ سريعةٍ سيغرق في أزمةٍ لا نهاية لها. طريقُ الإصلاح وعناصره الأساسية صارت معروفة، والتمنّعُ عن إطلاقِ خطةٍ فعلية للإصلاح صار أيضًا أمرًا واضحًا مهما كثرت الحجج والادعاءات عكس ذلك. المطلوبُ بَلوَرة حزمة إصلاحاتٍ شاملة وهيكلية تتناول مُختلف أوجه النظام اللبناني، وهي أوجهٌ كما نذكر مُترابطة ومتكاملة .البنك الدولي يُحذّرُ أيضًا في آخر تقاريره من التنامي الكبير للاقتصاد النقدي المُدَولَر (نسبة للدولار) والذي قدّرَ حجمه بحدود ٩.٩ مليارات دولارات في العام الماضي، أو نصف حجم الاقتصاد اللبناني، الأمر الذي يُشكّلُ عائقًا كبيرًا، حسب البنك الدولي، أمامَ تحقيقِ التعافي الاقتصادي. والأمثلة التي تشير إلى الانهيار الشامل أكثر من أن تُحصى.

ولا بدَّ من التأكيد أنّهُ بقدرِ ما يُعتبَرُ إنهاءُ الفراغ في رأس السلطة في لبنان من خلال انتخابِ رئيسٍ للجمهورية ،اليوم قبل الغد، أمرًا أكثر من ضروري لانتظام عمل الدولة، بقدر ما يُعتَبَرُ إطلاقُ حوارٍ حول برنامجٍ إصلاحي شاملٍ وتدرّجي يجري الاتزام به، أمرًا أكثر من ضروري أيضًا. الأمرُ الذي يستدعي  البدء فورًا في حوارٍ هادفٍ وفاعلٍ تُشارِكُ فيه مختلف المكوّنات السياسية. فانتخابُ رئيس للجمهورية بدون الالتزامِ ببرنامجٍ إصلاحيٍّ شاملٍ سيكون بمثابة شراء بعض الوقت قبل السقوط الكبير.

الحوارُ المطلوبُ لا بدَّ أن يُسهّلَ ويُسَرّعَ عملية انتخابِ الرئيس الإصلاحي الذي عليه أن يُشارِكَ في بلوَرة وإدارة البرنامج الإنقاذي الشامل والمطلوب، وتشكيل حكومةٍ تكون بمثابة “فريقِ عملٍ” لتنفيذِ البرنامجِ الإصلاحي التدرّجي والأكثر من ضروري في المالية والاقتصاد والإدارة والسياسة الى جانب رئيس الجمهورية. .يجب العمل أيضًا، مع تكوين السلطة الجديدة، على إيلاءِ أولوية لبلوَرة تفاهماتٍ وطنيةٍ عملية، بعيدًا من الشعارات  الفضفاضة. تفاهماتٌ، نحنُ بأمَسِّ الحاجةِ إليها، تُشَكّلُ مَرجعيةً وقواعدَ ناظمة لسياسةٍ خارجيةٍ ناشطةٍ ومُبادِرةٍ تُعيدُ للبنان مكانته ودوره على  المستويين العربي والدولي، كما تُساهِمُ عبر ذلك في تعزيز الأمن الوطني للبنان، الشرط الضروري لتعزيزِ الاستقرارِ وإطلاقِ مَسارِ التنمية والإعمار.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي لجامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى