لماذ فشلت أجندة بايدن في الشرق الأوسط؟

كابي طبراني*

على الرُغمِ من المَردودِ الضئيل لزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط في الصيف الفائت، فإنَّ واشنطن حقّقت مع ذلك بعض المكاسب الديبلوماسية خلال العام الماضي. في تشرين الأول (أكتوبر)، تَوَسَّطَت في اتفاقٍ تاريخي أدّى إلى تسويةِ نزاعٍ حدودي بحري استمرَّ سنواتٍ بين إسرائيل ولبنان. وقامت إدارة بايدن أيضًا بزَخمِ الجهود المبذولة لتعزيز التكامل الإقليمي من خلال إنشاء منتدى النقب –الذي يضمُّ البحرين ومصر وإسرائيل والمغرب والإمارات العربية المتحدة وأميركا- بالإضافة إلى المبادرات التي تُعزّزُ التعاون الدفاعي بين إسرائيل وشركاء واشنطن في الشرق الأوسط.

تُشيرُ هذه الخطوات إلى تحرّكٍ نحو أولويات واشنطن في المنطقة: اندماج إسرائيل في الشرق الأوسط الكبير، وتخفيف حدّة الصراعات الإقليمية وتعزيز الجهود الجماعية لاحتواء إيران. لكن المكاسب التي حققتها أميركا تواجه الآن رياحًا مُعاكِسة كبيرة يمكن التنبؤ بها، ما يُسلّطُ الضوءَ على الصعوبات التي تواجه أجندة بايدن الإقليمية.

أوّلًا، إيران. على الرُغمِ من قمعها الوحشي للحركة الاحتجاجية المُلهِمة التي قادتها النساء والتي اندلعت في أيلول (سبتمبر) الماضي، فقد خرجت طهران تمامًا من عزلتها الإقليمية والدولية من خلال اتفاقات التطبيع مع جيرانها العرب الخليجيين – أوّلًا مع دولة الإمارات، ثم بشكلٍ أكثر أهمية مع منافستها الإقليمية، المملكة العربية السعودية. في حين انخرطت طهران والرياض في حوارات استضافها جاراها الإقليميان العراق وسلطنة عُمان على مدى السنوات العديدة الماضية، فإن الدورَ الصيني البارز في دفع التطبيع عبر خط النهاية في آذار (مارس) قد فاجأ الكثيرين وأثارَ تصوّراتٍ مُنتَشِرة أصلًا حول تراجع أهمية الولايات المتحدة في الشؤون الإقليمية.

في غضون ذلك، تستمر القدرات النووية الإيرانية في التقدّم، حيث تلاشت الآمال في إحياء الاتفاق النووي الإيراني – والذي كان أولوية لإدارة بايدن. وما زاد الطين بلة، أنَّ موسكو اضطلعت بدورٍ غير بَنّاء في الديبلوماسية النووية مع تعميق علاقاتها مع طهران في خضم حربها على أوكرانيا.

ولكن، ربما يكونُ الأمرُ الأكثر إثارةً للقلق في ما يتعلق بمصالح الولايات المتحدة، هو أن بعض أقرب شركاء واشنطن الإقليميين يقومُ أيضًا بتوسيع العلاقات مع روسيا. على سبيل المثال، تستمر صادرات النفط الروسية إلى دولة الإمارات في الزيادة مع استفادة دول الخليج العربية من النفط الروسي المخفض للاستخدام المحلي، مما يُحرّرُ إنتاجها للتصدير في وقتٍ ترتفعُ الأسعار العالمية. على الرُغم من أن الدافع هو تعظيم الأرباح، إلّا أنَّ نتيجة ذلك تؤدي إلى تخفيف تأثير العقوبات الغربية المفروضة على موسكو. ينخرط الشركاء العرب خارج الخليج أيضًا مع روسيا، على الرُغم من الاعتراضات الغربية. أشارَ تسريبٌ حديث لوثائق المخابرات الأميركية إلى أن مصر فكّرت حتى في شحن صواريخ ومدفعية إلى روسيا للمساعدة في مجهودها الحربي. وفقًا للتقارير، أوقفت زيارات كبار المسؤولين الأميركيين للقاهرة العملية، لكن مجرد التفكير بأن أحدَ أكبر المُتَلقّين للمساعدات العسكرية الخارجية الأميركية كان يفكّر حتى في تقديم مساعدة عسكرية لروسيا هو بلا شك مصدرُ قلقٍ لصانعي السياسة في واشنطن.

في هذه الأثناء، في إسرائيل، أثارت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة احتجاجاتٍ على مستوى البلاد بمقترحاتٍ تشريعيةٍ مُثيرةٍ للجدل من شأنها تقويض استقلال القضاء وإضعاف الضوابط والتوازنات الحيوية في نظام الحكم في البلاد. لقد أطلقت سياسات الحكومة الحالية العنان لواحدة من أخطر فترات الاضطرابات في تاريخ إسرائيل، ما زاد من عدم اليقين بشأن مستقبلها كدولة “ديموقراطية يهودية”.

تزامنت الاضطرابات الداخلية مع تصاعد التوتّرات في الضفة الغربية وعلى طول الحدود الشمالية والجنوبية لإسرائيل، بما في ذلك واحدة من أكبر الهجمات الصاروخية ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية منذ حرب العام 2006 مع “حزب الله”. يُمكِنُ لجولة جديدة من القتال تشارك فيها إسرائيل أن تتميز بالتنسيق بين الجماعات المدعومة من إيران في جميع أنحاء لبنان وسوريا وغزة والضفة الغربية. الخطوات الاستفزازية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في القدس يمكن أن تزيد من تأجيج التوترات الإقليمية، مع تداعياتٍ مُحتَملة على علاقات إسرائيل مع الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات معها.

قد لا يكون العديد من هذه التطورات، ولا سيما الانفراج بين السعودية وإيران، بمثابةِ ضربةٍ قاضية لأجندة واشنطن الإقليمية. بعد كل شيء، تُرحّب إدارة بايدن بوقف تصعيد الصراع العسكري في الشرق الأوسط ودعمت علنًا المحادثات بين الرياض وطهران التي قد تؤدي إلى حلّ القتال في دول مثل اليمن. وإذا كانت الصين مُثقلة بمسؤولية ضمان التزام الجانبين باتفاقهما، فلن يكون لدى الولايات المتحدة الكثير لتخسره وربما هناك الكثير لتكسبه، لأن الاستقرار في الشرق الأوسط يُمكِنُ أن يُعزّزَ قدرة واشنطن على تركيز انتباهها على المسارح ذات أولوية أعلى، ولا سيما في المحيطين الهندي والهادئ والحرب في أوكرانيا.

ولكن عند تقييم ذلك مقابل المبادئ التي تُوَجّهُ نهجَ إدارة بايدن تجاه الشرق الأوسط، فإن التطورات الأخيرة في المنطقة لا تبدو مواتية. تواجه شراكات واشنطن الإقليمية –وهي حجر الأساس لاستراتيجية إدارة بايدن– ضغوطًا كبيرة. لا تزال العلاقات مع المملكة العربية السعودية متوترة، خصوصًا بعدما رفضت الرياض طلب واشنطن بزيادة إمدادات النفط من خلال “أوبك +”، ناهيك عن إنفتاحاتها تجاه طهران.

منطقةُ توتّرٍ أخرى تشمل الجهود الإقليمية لإخراج الرئيس السوري بشار الأسد من الصَقِيع، وهو ما تعارضه واشنطن. قادت دولة الإمارات الطريق نحو التطبيع مع الأسد، لكن سرعان ما تبعها الكثير من دول المنطقة. فتحت المملكة العربية السعودية مناقشات حول ما إذا كانت ستدعو الأسد إلى قمة جامعة الدول العربية التي تستضيفها الرياض في وقت لاحق من هذا الشهر، بينما اجتمع وزراء خارجية سوريا ومصر والعراق والمملكة العربية السعودية والأردن في عمّان هذا الأسبوع لمناقشة خارطة طريق للتطبيع وحلّ الصراع السوري. كما تقوم تركيا، العضوة في “الناتو”، بتطبيع العلاقات مع سوريا ويُعتَقَدُ أنها تستهدف القادة الأكراد السوريين الذين يعملون مع الولايات المتحدة في القتال ضد ما تبقّى من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”.

أما بالنسبة إلى إسرائيل، الشريك الأكثر أهمية لواشنطن في المنطقة، فقد صرّحَ بايدن بأنها “لا تستطيع الاستمرار على هذا الطريق”، في إشارةٍ إلى مقترحات حكومة نتنياهو التشريعية المُناهضة للديموقراطية بالإضافة إلى خطابها وسياساتها المُعادية للعرب. البيت الأبيض لم يَدعُ نتنياهو إلى واشنطن لزيارة رسمية منذ عودته إلى السلطة. رفضت وزارة الخارجية اتهامات وزير العدل الإسرائيلي بأن واشنطن تدعم الاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية المقترحة من الحكومة، وهو ادعاءٌ من المرجح أن يزيد من غضب المسؤولين الأميركيين.

ربما لن تؤدي التوترات المنبثقة من التركيبة اليمينية المتطرفة لحكومة نتنياهو إلى عرقلة اتفاقية التطبيع المُوَقَّعة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة في العام 2020، نظرًا إلى مواءمة مصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية. لكن حتى أبو ظبي أعربت عن استيائها من الحكومة الإسرائيلية الحالية، ورفضت دعوة نتنياهو لزيارة الإمارات منذ عودته إلى السلطة في العام الفائت. كما رعت الإمارات قرارًا لمجلس الأمن الدولي يدعو إسرائيل إلى وقف جميع الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية بعد إعلان حكومة نتنياهو أنها سترفع القيود المفروضة على التوسّع الاستيطاني، رُغمَ أن أبو ظبي ألغت التصويت لاحقًا بعد تدخّل واشنطن.

كما أعاقت الإجراءات الإسرائيلية التكامل الإقليمي، بما في ذلك منتدى النقب، حيث تحاول إدارة بايدن تعزيز اتفاقات أبراهام من خلال توسيع التعاون بين شركائها الإقليميين في مجالات رئيسة مثل التنمية الاقتصادية، وتغيّر المناخ، والأمن الغذائي والمائي، والتعليم والرعاية الصحية. وقد فشل اجتماعٌ وزاري للمنتدى في الانعقاد حيث كان من المقرر أن يستضيفه المغرب في آذار (مارس) بسبب تصاعد العنف في الضفة الغربية وغزة. على الرُغمِ من استمرار الاجتماعات على مستوى العمل، فإن التأييدَ العالي المستوى من الشركاء الإقليميين آخذٌ في التضاؤل.

حتى قبل الاحتكاك مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، امتنع شركاء الولايات المتحدة المُقرّبون مثل الأردن عن الانضمام إلى المنتدى لأنه استبعدَ الفلسطينيين، الذين ينظر قادتهم إلى اتفاقات أبراهام وعمليات المتابعة، مثل منتدى النقب، على أنها فشلت في تعزيز حقوقهم ومصالحهم، بينما تزيد من تآكل الآفاق القائمة أصلًا لحلِّ الدولتين. المملكة العربية السعودية، التي تعتبرها إسرائيل الأولوية القصوى لجهود التطبيع الإقليمي، أعربت أيضًا عن التزامها المستمر بمبادرة السلام العربية الخاصة بها – المقترحة في العام 2002 – والتي تدعو إلى حلّ الصراع الفلسطيني كشرط مسبق للسلام الإقليمي. يبدو أن التصعيدَ الأخير في أعمال العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين يزيد من تخفيض اهتمام الرياض بالانضمام إلى الاتفاقات.

بدوره يواجه التعاون الأمني والدفاعي الإقليمي المدعوم من الولايات المتحدة أيضًا انتكاسات، حيث يتمثّلُ الهدف في تعزيز الردع الجماعي ضد الخصوم الإقليميين المشتركين مثل إيران مع منع المنافسين العالميين مثل الصين وروسيا من اكتساب المزيد من الأرض والنفوذ في الشرق الأوسط. كما أوضح كولِن كال، وكيل وزارة الدفاع الأميركية للسياسة، في حوارِ المنامة في البحرين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أنَّ رؤية واشنطن تتمثّل في بناء “هيكلٍ إقليمي مع شركائنا من أجل تعزيز التعاون وردع الخصوم وتحديد شروط مستقبل أكثر استقرارًا وتكاملًا”، ويتعارض ما قاله كال بحدة مع الصين، الذي قال إنها “ليست لديها مصلحة في التحالفات ذات المنفعة المتبادلة و … لا النية ولا القدرة على دمج البنية الأمنية للمنطقة”.

اتخذ كبار المسؤولين في وزارة الخارجية موقفًا أكثر ملاءمة بشأن دور الصين في الشرق الأوسط أخيرًا، مُشيرين إلى أن الولايات المتحدة لا تحاول مواجهة الصين في الشرق الأوسط ولا تزال واثقة من علاقاتها الإقليمية. لكن في شهادةٍ أمام الكونغرس في آذار (مارس)، سلّط الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية، الضوءَ على المنافسة الاستراتيجية مع الصين كأولوية رئيسة للولايات المتحدة. التقارير التي تُفيدُ بأن الصين تستأنف بناء قاعدة عسكرية في الإمارات، وهو مشروع تم تعليقه سابقًا في أبو ظبي بسبب مخاوف الولايات المتحدة، لن يؤدي إلّا إلى زيادة القلق في واشنطن بشأن البصمة الصينية المُتزايدة في الشرق الأوسط.

بينما تواصل أميركا الحفاظ على وجودٍ عسكريٍّ مُكَثَّف في المنطقة (أكثر من 50 ألف جندي)، والشركاء حريصون على التعاون مع واشنطن بشأن قدرات الدفاع الصاروخي والأمن البحري، فهم ببساطة لا يعتقدون أنه يتعيّن عليهم الاختيار بين مراكز القوى المتنافسة. فهم يجنون بنجاح الفوائد من جميع القوى العظمى من خلال الاستفادة من منافساتِ القوة العالمية لصالحهم. بالنسبة إلى العديد من المراقبين، كانت استضافة الصين لحفل التوقيع على اتفاقية التطبيع بين إيران والسعودية أحدثَ مؤشّرٍ إلى “نظام ما بعد أميركا”، وقد يفضّل بعض الدول العربية شراكات بديلة مع قوى عالمية أكثر انسجامًا مع وجهات نظرها للحكم. لكن النظامَ المُتعدّد الأقطاب في الشرق الأوسط كان راسخًا أصلًا قبل الاتفاقية الإيرانية-السعودية. إن رغبة واشنطن في اصطفاف المنطقة في ائتلافات متنافسة تسبح في اتجاه التيار.

في هذا الصدد، قد تكون استراتيجية إدارة بايدن في الشرق الأوسط تضع نفسها أمام خيبات أمل مستمرة. النكسات التي حدثت في الأشهر القليلة الماضية –مع اقتراب شركاء واشنطن الإقليميين من الصين وروسيا وإيران وسوريا وسط مخاوف متزايدة بشأن التحالف مع إسرائيل– من غير المرجح أن تكون لمرة واحدة. ببساطة، الواقع الإقليمي لا يتحرك في اتجاهات تتوافق بدقة مع تفضيلات الولايات المتحدة. في مواجهة ما يُرَجَّحُ أن تكون هناك رياحٌ مُعاكَسة دائمة، قد يكون من الحكمة أكثر لصناع السياسة الأميركيين أن يفكروا في بعض الأساليب الجديدة في المنطقة، بما في ذلك إعادة تقييم أولويات وشراكات واشنطن الحالية.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى