الحدائق العامة بريشاتهم (2 من 2)
هنري زغيب*
بعد مجموعة المقالات التي سبق صدورُها في “أَسواق العرب”: “الأَعراس بريشاتهم”، و”المطر بريشاتهم”، و”الصيف بريشاتهم”، و”الخريف بريشاتهم”، و”الثلج بريشاتهم”، و”القمر بريشاتهم”، و”قصص الحب بريشاتهم”، و”الحصان العربي بريشاتهم”، و”حدائق الفنانين بريشاتهم”، و”الأَنهار بريشاتهم”، و”الطيور بريشاتهم”، هنا مقال عن “الحدائق العامة” بريشات فنانين جلَسوا فيها وأَمضَوا ساعاتٍ هانئةً يستريحون أَو يرسمون. فبعض الحدائق العامة من أَجمل الأَماكن للراحة والهدوء، عدا قيمتها الفنية والطبيعية. ولكلٍّ منها قصةٌ دفعت بالرسام كي يكون في الحديقة العامة فيرسمها أَو يرسم فيها.
بين عشرة رسامين وجدتُ لهم لوحاتٍ عن الحدائق العامة، عرضتُ في الحلقة الأُولى من هذا المقال خمسةً وضعوا لوحاتٍ في هذا الموضوع بالذات، وفي هذه الحلقة الأَخيرة أَعرض للخمسة الباقين وأَعمالهم.
- الهولندي فان غوخ: “ممر في حديقة آرْلْ”
اشتُهر فان غوخ (1853-1890) بحبِّه الطبيعةَ وتنقُّله في أَرجائها، يرسم منها وفيها وعنها لوحاته الرائعة التي باتت اليوم من أَهم لوحات العصر وربما كل عصر. ومن أَبرز ميزاته في لوحات الطبيعة: التقاطُهُ هنيهاتٍ سريعةً وتفاصيلَ دقيقةً قلَّما التقَطَها أَو تَنَبَّه لها سواه. وفي السنواتِ القليلةِ السابقةِ وفاتَه، وضع مجموعة لوحاتٍ لم يرسم فيها إِلَّا مناظر في الطبيعة من زوايا مختلفة، أَو أَنه رسم المنظر ذاته من زوايا مختلفة. وبين أَكثر الأَماكن التي كان يختلف إِليها ويهنأُ فيها بعض الحدائق العامة في مدينة آرْلْ الهادئة (جنوبيّ فرنسا على نهر الرون) وفيها المصحّ الذي اتخذه مأْوًى له آخرَ سنتَين من عمره القصير. وهذه اللوحة “ممر للحديقة العامة في آرْلْ” (1888) تتميَّز بوضوح أُسلوب فان غوخ في تَنَاوُله المناظر. وفيها تتماوج الأَلوان بين الأَخضر والأَصفر في تناسق رائع.
- النمساوي غوستاف كْلِمْتْ: “الحديقة العامة”
من علامات غوستاف كْلِمْتْ (1862-1918) بُروزُهُ فنانًا رمزيًّا متميَّزًا بين سائر زملائه ومعاصريه في أَواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. وانفرد عن سواه بمواضيع ذات علاقة مباشرة بالمرأَة وشؤُونها ما لم يقاربه الآخرون. على أَنه كان ذا ميلٍ خاص إِلى المناظر خارجًا في الطبيعة الرحبة، ويجد مؤَرخو الفن والنقاد أَن تلك اللوحات هي أَهم أَعماله على الإِطلاق. من هذه الأَخيرة لوحتُه “الحديقة العامة” (1910) وفيها مساحةٌ واسعة للشجر الأَخضر العالي المكتظّ الورق والأَغصان بشكل يسُدُّ المدى خلفه بشكل كامل، ما أَعطى لوحته نكهة خُضرة فريدة.
- الأَميركي تْشايْلْدْ هاسِم: “الربيع في السنترال بارك”
ليس تْشايْلْدْ هاسِم (1859-1935) واسع الشهرة كسائر زملائه وأَترابه ومعاصريه من أَواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. لكنه تميَّز بميله إِلى رسم المناظر الطبيعية والساحلية في المنطقة التي ينتمي إِليها (بوسطن بشكل خاص ثم نيويورك) بأُسلوبه الانطباعي. ولوحته “الربيع في السنترال بارك” (1898) هي من أَبرز الأَعمال التي خلَّدت تشكيليًّا تلك الحديقة النيويوركية العامة الشهيرة في العالم. وفيها التقط بحسِّه الانطباعي الممتع زوايا جميلة من تلك الحديقة الواسعة وطرَّزَها، في مقدمة اللوحة، برسْمه أُمًّا تراقب ابنتَيها السائرتين أَمامها.
- الأَميركي وليام تشايز: “الحديقة العامة في المدينة”
وهذا أَميركيٌّ آخر: وليام ميريت تشايز (1849-1916) أَطْلَع أَعمالًا انطباعيةً جميلة عن الحديقة العامة. وهو زميل تشايلد هاسِم، لكنه كان أَكثر شهرةً منه بين الأَوساط الأَميركية في نهاية القرن التاسع عشر. ركَّز أَعماله في لوحاته على الناس، فلا طبيعة عنده من دون ناس منهمكين في أَعمالهم أَو نُزهاتهم أَو انشغالاتهم المختلفة، ما يعطي الرائي فكرة واضحة عن الثقافة الأَميركية اليومية إبان تنامي المرحلة الصناعية. ولوحته هذه “الحديقة العامة في المدينة” (1887)، كسائر أَعماله، رسم امرأَة جالسة على مقعد في تلك الحديقة وسط المنظر العام الساحر الجمال، برزت فيها براعة الرسام في استخدام الأَلوان والتضاد بين النور والظل، وهو أَمر تميَّز به بين أَترابه.
- الأَميركي موريس پْرينْدِرْغاسْت: “منظر من السنترال بارك في نيويورك”
هوذا رسام آخر سحَرَتْه الحديقة العامة الشهيرة وسط نيويورك. وركَّز موريس پْرينْدِرْغاسْت (1858-1924) على استخدام وسائط تشكيلية، في لوحاته الزيتية كما لوحاته المائية، قلَّما استخدمها أَترابه في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. ونادرًا ما رسم منظرًا بدون ناس، خصوصًا زوار “البارك” الشهير في قلب مانهاتن. ولوحته “منظر من السنترال بارك في نيويورك” (1901) هي واحدة من مجموعة وضعها عن تلك الحديقة الشهيرة (خامس أَكبر حديقة عامة في المدينة، وأَكثرها جذبًا سياحيًّا في الولايات المتحدة). وفي تلك اللوحة رسم زوارًا يتمشون، أَو جالسين على المقاعد الموزَّعة في كل الحديقة، أَو مفترشين العشب في الممرات الوسيعة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.