حدائقُهم بريشاتهم (2 من 2)

غوستاف كْلِمْتْ: “دوَّار الشمس في حديقة المزرعة”

هنري زغيب*

في الحلقة الأُولى من هذه الثنائية سردتُ خمس لوحات لخمسة رسامين عالميين وضَعوا لوحاتٍ عن حديقتهم أَو حدائقَ زاروها وأَحبوها، في تقليدٍ للفن التشكيلي أَن يضع الرسام لوحةً عن وجهه (وهو أَمام المرآة أَو أَمام صورة له)، أَو لوحات عن بيته أَو زوايا خاصة في بيته، وهو ما وجدناه أَيضًا لدى عدد من الرسامين. لكن حديقة الرسام نادرًا ما وجدناها بين أَعماله، لذا تركَها رسامون معدودون لِلَوحات مبدعة وضَعُوها حين في حديقتهم ما يعني لهم بين زاويةٍ هنا، أَو ممرٍّ هناك، أَو ناحيةٍ من الحديقة محبَّبَة لديهم.

في هذه الحلقة الثانية أَعرضُ خمسَ لوحاتٍ أُخرى لخمسة رسامين تركُوا ريشتهم تتنقَّل في زوايا حميمة أَو خاصة من حديقتهم أَو حديقة تعنيهم.

  1. الفرنسيّ أُوغست رُنوار (1841-1919): هو رائدُ الحركة التي أَطلقت التيار الانطباعي. اشتُهر برسمه الجمال في الطبيعة وفي المرأَة. قيل فيه إِنه “آخر ممثل للتيار التشكيلي الممتد من الفلَمَنْكيّ بيتر روبنز (1577-1640) إِلى الفرنسي جان أَنطوان واتو (1684-1721)”.

في لوحته هذه “امرأَةٌ ذاتُ مظلَّة في الحديقة” (1875) تتجلَّى براعة الرسام في نقل الأَزهار والنباتات والشجيرات، واستظلال المرأَة بمظلَّتها داخلةَ إِلى الحديقة، إِلى يمينها رجُل مُنْحَنٍ كما ليقطف زهرة يُهديها إِياها، ومجمل المشهد حديقةٌ مزهرة زائغة بالجمال والبهجة والحب والحيوية. كأَن هذه الحديقة الهادئة الهانئة مهربٌ حقيقيٌّ من ضوضاء المدينة وصخبها. وهذه اللوحة، وفق دراسات عدة عن رُنوار، لم يضعها في منطقة هادئة بل من حديقة منزله في حي مونمارتر الصاخب. ومع ذلك، انعزل عن الخارج ورسَم الهدوء في لوحته كأَنه وضعها في قرية هادئة نائية.

  1. النمساوي غوستاف كْلِمْتْ (186201918): هو رسامٌ رمزيٌّ وأَحدُ رواد “تيار فيينا التشكيلي الانفصالي”. اشتُهر بلوحاته ورسومه وجدارياته ومنحوتاته المنمنمة. ركَّز في معظم أَعماله على جسَد المرأَة إِنما بدُون تبَذُّل.

لوحتُهُ “دوَّار الشمس في حديقةِ المزرعة” (1906) غنية بالأَلوان الـمُشرقة التي توحي للناظر إِليها بجوّ الفرح والحُبور. ففي المزاوجة بين زهر دوَّار الشمس الأَصفر وما حولَه من زهر أَحمر وأَزرق وأَبيض، ما يتناقضُ والمحيط الأَخضر في شجيرات الحديقة. من هنا تنعكس في اللوحة ملامحُ الحيوية في هذه الحديقة، وسْط جو صيفيّ أَو ربيعيّ من حياة المدينة بعيدًا عن صخبها وضوضائها، فيشعر الرائي بإِيجابية وتفاؤُل وانشراح.

بول سيزان: “حديقة في إِكس آن بروفانس”
  1. الفرنسي بول سيزان (1839-1906): لمع رسْمه في مرحلة ما بعد الانطباعية حتى أَصبح رائدًا أَثَّر أُسلوبُه في مجموعة لاحقة من رسامي مطلع القرن العشرين.

لوحتُه هذه “حديقة في إِكس آن بروفانس” (1906) وضعَها بعد أَن ابتنى سنة 1906 محترفًا في تلك المنطقة ظل يرسم فيه حتى وفاته سنة 1906. وتلك اللوحة قد تكون آخر ما رسمَت ريشتُه. وضعها بالأُسلوب التكعيبي وأَغناها بأَزهار التوليب واللاوَند وأَخضر الحقول، وهي طبيعةٌ سائدة في منطقة إِكس آن بروفانس. ورُقْشات الأَلوان من ريشته أسَّسَت لـتيار تشكيلي اعتَمد بعده هذا الأُسلوب في لغة الريشة، وهو على بعض غموض استبقَ الحركة التجريدية. وواضح في هذه اللوحة حبُّهُ الطبيعة وما فيها ومَن فيها.

يواكيم سُورُويَّا: “حديقة البيت لدى أُسرة سُورُويَّا”
  1. الإسباني يواكيم سُورُويَّا (1863-1923)، اشتُهر برسمه الوجوه والمناظر الطبيعية والأَعمال الكبيرة الأَحجام ذاتَ المواضيع التاريخية والاجتماعية.

لوحته “حديقة البيت لدى أُسرة سُورُويَّا” (1920) تتَّسِق في سلسلة لوحات الرسام التي تُظهر شغفَه في إِظهار البَرَّاق والجميل والساطع في شمس الطبيعة الإِسبانية. وهو عاش كل حياته في هذا الجو. فبعد أن وُلِدَ ونشأَ في فالنسيا، انتقل إِلى مدريد وعاش في بيت تَحَوَّل بعد وفاته متحفًا لأَعماله. وكان البيت محاطًا بحديقة جميلة زائغة بالزهر الملوَّن والمنوعَ فرسمَها في عدد غير قليل من لوحاته. وهذه اللوحة بالذات، جعلها في أَلوان متعددة لإِبراز الفرح في جو الحديقة العام، واستعمل لها الباستِل لإِظهار الضوء أَفضل مما يؤَديه الرسم الزيتي، ولرسم أَشعة الشمس متسلِّلةً من بين أَوراق الشجر. والـمَقعد الخالي فيها كأَنه يدعو إِلى الجلوس فيه والانفراد في خلْوة هادئة وتَأَمُّل جمال الطبيعة في الحديقة وما يحيط بها.

بيتر كْرُوْيِر: “زوجة الفنان في حديقة الورد”
  1. النروجي الدانماركي بيتر كْرُويِر (1851-1909): كان عضوًا في مجموعة “سْكاغِن” التشكيلية، وهي أَطلقت في أَواخر القرن التاسع عشر تيارًا ضمَّ رسامين سويديين ونروجيين ودانماركيين، كانوا يجتمعون في قرية سْكاغِن الدانماركية الشهيرة بصيَّادي الأَسماك، واستعملوا التقنية ذاتها التي للرسامين الفرنسيين الانطباعيين.

في لوحته هذه “زوجة الفنان في حديقة الورد” (1883) رسَم زوجتَه بالأَبيض جالسةً تَقرأُ في الجريدة تحت شجرة مزهرة في قرية سْكاغِن. استعمل للَّوحة ألوانًا هادئة في براعة رسْمِهِ تفاصيلَ النور والظل، ليُعطي شعورًا بالهدوء التامّ، في هذه الجلسة الهانئة ذاتَ غروبٍ ربيعي.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى