سِياسَةُ التَهدِئة لَيسَت بَديلًا من التَسوِيةِ السِلمِيَّة

الدكتور ناصيف حتّي*

حَذَّرَ أكثر من مسؤولٍ إسرائيليٍّ سابق أنَّ ما يَجري في إسرائيل هو بمثابةِ حربٍ أهلية بوسائل غير السلاح. يَحصَلُ ذلك بسبب سياساتِ الحكومة الحالية، حكومة اليمين الديني المُتشدّد، التي تتجه، ضمن أمورٍ أُخرى، لإحداثِ انقلابٍ قانوني في توازن القوى القائم بين السلطات وذلك لمصلحة السلطة التنفيذية على حساب السلطة القضائية. ولم تنجح محاولات الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مبادرته لحَسرِ الفجوة بين الحكومة والمعارضة بشأن الاصلاح القضائي الذي تصرّ عليه الحكومة. صراعٌ يَعكُسُ في العمق، كما رأى أكثر من مراقب للسياسة الإسرائيلية، خلافًا شاسعًا في الرؤية. خلافٌ يتعدّى مسألةَ البنية السياسية للسلطة ليتناول طبيعةَ السلطة وأُسُسَها وإدارَتَها لشؤون البلاد، وكذلك الخلاف المُستفحَل حول الأولويّات الوطنية. وهذا كلّه يَعكُسُ حجمَ الانشطار الحاصل في المجتمع الإسرائيلي. وقد سَهّلَ لا بل شجّعَ على ذلك أن القضية الفلسطينية، كما أشرنا أكثر من مرّة، كانت خارج الأولويّات الإقليمية منذ فترة غير قصيرة لأسبابٍ عديدة أهمّها من دون شك الحرائق التي اشتعلت وما زال أكثرها مستمرًّا في المنطقة، ولو أنَّ نيرانها قد خفتت بعض الشيء.

لكن المفارقة المُثيرة للاهتمام أنَّ السياسة الناشطة للحكومة الجديدة القائمة على الاستكمال السريع لتهويد الجغرافيا والديموغرافيا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد أعادت إحياءَ الصراعِ على الأرض بشكلٍ تصاعُديٍّ ومَفتوحٍ على كافة الاحتمالات. الأمرُ الذي أعادَ فَرضَ القضية الفلسطينية، نظرًا إلى مخاطر التطورات الحاصلة في المنطقة، ولو بدرجاتٍ وأوقاتٍ مختلفة، على جدول الأولويات الإقليمية. ولكن لا يعني ذلك بايِّ حال أنَّ هناك توجّهًا للتسوية المطلوبة، بل ما نَشهده هو العودة إلى محاولة تخفيض أو تجميد الصراع على الأرض خوفًا من تداعياته إذا ما أخذ مَنحًى تصاعديًا في غيابِ أيِّ أُفُقٍ للتسوية السلمية المطلوبة.

وللتذكير في ما يتعلق بتصعيد الصراع من المنظور الإسرائيلي، هناك خطة الوزير في الحكومة يتسلئيل سموتريتش الهادفة إلى تنفيذ مشروعه السياسي المُسَمّى بخطة الحسم والقائم على محو الخط الأخضر بين إسرائيل والضفة العربية للضمّ الكلّي للضفة. ولا بدّ من التذكير في هذا المجال للدلالة على المنحى الذي اتخذته السياسة الإسرائيلية بشكلٍ فاضح وواضح، أن إسرائيل رفضت استقبال جوزيف بوريل، المفوَّض الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للإتحاد الأوروبي الذي وجّهَ نقدًا لاذعًا لإسرائيل كونها “الطرف الوحيد الذي يرفض السلام على أساسِ حلِّ الدولتين، من بين باقي الأطراف”.

وعلى صعيدٍ آخر جاء مؤتمر شرم الشيخ  الخُماسي (الولايات المتحدة، إسرائيل، فلسطين، مصر، الأردن) الذي انعقدَ يوم الأحد الفائت تحت عنوان تحقيق التهدئة، ليؤكّدَ مُجدَّدًا على ما نتج عن اجتماع الأطراف ذاتها في العقبة في ٢٦ شباط (فبراير) الفائت: لا إقرار لبؤرٍ إستيطانية جديدة لفترة ستة أشهر، ووقف مناقشة إنشاء أيِّ وحداتٍ استيطانية جديدة لفترة أربعة أشهر. كما أكّدَ المؤتمر على ضرورةِ إنهاءِ الإجراءاتِ الأحادية في فترةٍ تمتدّ من ثلاثة إلى ستة أشهر، إلى جانب التطلّع “لوضعِ أسُسٍ لإجراء مفاوضاتٍ مباشرة للتوصّل إلى سلامٍ شاملٍ ودائمٍ وعادل”. وبقدر ما هي التهدئة ضرورية إذا كانت مُرتَبِطةً بجدولٍ زمني أو خريطة طريق لإعادة إحياء المفاوضات على الأُسُسِ والمرجعيّاتِ الدولية المعروفة، تكون خطيرة في تداعياتها إذا كانت في حقيقة الأمر هدفًا مفتوحًا في الزمان، أو عملية شراء وقت من جهة، فيما تستمر إسرائيل في سياسة الضمّ الفعلي والشامل للضفة الغربية من جهة أُخرى. وهذا ما سيستمر عليه مسار التطوّرات على الأرض .

سيزيد ذلك ويُسرّع بدون شك من إمكانية الانفجار الشامل، الذي متى حدث سيخلط “أوراق اللعبة” ويُعيد الصراعَ إلى المربع الأول، مع ما يحمله ذلك من تداعياتٍ ناتجة عن التطورات المُنتَظرة في سيناريو من هذا النوع: سيناريو تأجيل الإنفجار. وكُنّا تساءلنا في مقال سابق، نُشِرَ في المكان نفسه لهذا المقال منذ أسابيع اربعة، ما إذا كانت التهدئة هي الحل. ونتطلع من منظورٍ مبدئي وواقعي في الوقت ذاته، لأن تَكونَ التهدئة مجرّد محطّةٍ في طريقٍ ليس سهلًا ومليء بالحواجز، لكنه ضروريٌّ من مُنطَلَقٍ واقعيٍّ جدًا لتَلافي الذهاب نحو المجهول.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى