غالب غانم والـمِرآةُ الـمُطَيَّبة

هنري زغيب*

أُعطِيَ القانونُ في لبنانَ جناحَين: للحُكْم بِاسْمه (القضاء) وللدفاع بِاسْمه (المحاماة).. وأُعطِيَ للجناحَين مَن نصَّعَهُما تَوَازيًا بالأَدب، أَخصُّه الشعرُ (القاضي الشاعر بولس سلامة نموذجًا)، والأَدبُ الجمالي الأَنيق (المحامي الأَديب أَنطُون قازان نموذجًا). سوى أَنه أُعطِيَ أَيضًا فَراداتٍ ضمَّت الجناحَين معًا: جلالةَ القضاء ومهابةَ المحاماة إِلى جماليا الأَدب، كما حال الدكتور غالب غانم.

علامتُه أَنْ ليس يأْخذُك لديه “ماذا” يكتُب فقط، بل “كيف” يكتب “ماذا”.. فالعبارةُ منه تسْطَع بلآلئِ التركيب، تُطرِّز المعنى فيحلُو، تُبَلْوِر المبنى فيغلُو، تُنَصِّع النصَّ فيجلُو، وإِذا أَنت أَمام قطعة أَدبية من مَرمَر جماليّ ينبُض حياةً في القالب الأَبهى.

بلغَني كتابُه الجديد “أَيام الصفَاء والضوضاء” (500 صفحة حجمًا كبيرًا – منشورات “دار سائر المشرق”) فَرَكَنْتُ إِليه فضاءً أُوتوبيوغرافيًّا بالغَ الصفاء حافي الضوضاء، تجمَّع فيه حُسْنٌ للبنانَ ذهبيُّ العصر عبقريُّ المعافاة.

قلتُ “فضاء” ولم أُبالغ.. فما حملَني إِليه، كاتبًا أَنيقًا، سفَرٌ في الزمَن الخيِّر منذ “بسكنتَاهُ” الحارسةِ جلالَ صنين، إِلى “بيروتِه” حاضنةِ صباه وشبابه ومسيرته الحقوقية والقانونية ومسؤُولياتٍ عُليا مَشَحَها بنُبْل الطويَّة ونصاعة الضمير فشَرُفَت به وهَنِئَتْ إِليه. وكيف لا يكونُه، وهو وريثُ “المعلِّم” عبدالله، “عندليب” الشعر اللبنانيّ، مَحكيِّه وفُصحاه؟ ففي مرايا الكتاب ملامحُه تطُوف على التذكار في تواضع البُنُوَّةِ اعتزازًا بأُبُوَّةٍ غيرِ عادية، وفي حنان “أُمّ جورج” يمامة البيت و”مي” شاعرِها، ليكونَ البيتُ مسقوفًا بالشعر، يحمي جورج وروبير، ويواكب الـ”رفيق” الوفيّ، ويَظلُّ آمنًا بالأَشقَّاء الغانميي الهوى والتربية والقيَم.

رافقْتُ غالب غانم في كتابه صفحةً صفحة، فإِذا في كلٍّ منها أَطايبُ مِلَاح، تنضَح بالعصامية المفرَدة، من الفتى الطَموح فالشاب الطامح إِلى ميزان العدل، فالمتولّي المناصبَ أَشرفَها فأَعلاها، ساكبًا عليها المحتِدَ الشهْم والأَصالة بنتَ البيت العالي.

مبالغة؟ بل حقيقة.. هوذا خطُّه البيوغرافي يمتدُّ من “سرتيفيكا خزانة أُمّ جورج”، إِلى مقاعد “الحكمة” تلمذَةً، إِلى قاعاتها تدريسًا، إِلى مقاعد الجامعة اللبنانية حقوقًا وأَدبًا عربيًّا، إِلى التدريس الجامعي، إِلى التدرُّج خمس سنوات لدى الكبير (محاماةً وأَدَبًا)  عبدالله لحود (لِتَعَذُّر مكتب أَنطُون قازان عن استيعاب متدرِّجٍ جديد)، فالاستقلال في مكتب شخصيّ، فالانطلاق إِلى القضاء (“المهنة الرسولية الثانية” كما سمَّاها) مزوَّدًا ببَرَكَة والدته “أُم جورج” وحلْمها، عند تَقَدُّم أَحد أَبنائها إِلى امتحانٍ، أَنها “تتمشَّى في مرج أَخضر أَو تستقي من نبع صافٍ أَو تحمِل باقة ورد”. وفي القضاء تَسامى بالعدل: قاضيًا منفردًا في محكمة جونيه-كسروان، فرئيس مجلس شُورى الدولة، فرئيس مجلس القضاء الأَعلى، فالرئيس الأَول لمحكمة التمييز، مرورًا بمهامَّ موازيةٍ ليست أَقلَّها النيابةُ العامة في جبل لبنان، ورئاسةُ هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، ورئاسةُ منظَّمة محاكم التمييز الفرنكوفونية. وعلى ذكْر مجلس القضاء الأَعلى، يَغْنَمُ به الأَدبُ اللبناني مجدَّدًا بين رئيسه السابق غالب غانم ابن الشاعر عبدلله غانم، ورئيسه الحالي سهيل عبود حفيد الأَديب مارون عبود.. فما أَهنَأَ أَدَبَنا اللبناني بأَبناء القمم وأَحفادها.

لا أَرمي من هذا المقال قراءةً كتابَ غالب غانم.. لكنَّ في حناياه فصولًا تُثْبتُ قُدرة اللبناني، الخلَّاق نُبلًا شخصيًا واستحقاقًا مهنيًّا، أَن يكون فردًا متعدِّدًا في خدمة وطنه، حتى إِذا سأَله الوطن شهادةً ذاتية، جاء بما حمَل صفاءُ غالب غانم وضوضاؤُه: سيرةَ مجموعةٍ في فردٍ، جمعَت الذاتَ بالسوى، والتاريخيَّ بالوجدانيِّ، وعرشَ القضاء المهيب بمملكة الأَدب الجماليّ.

وإِذا الـمِرآةُ أَن تكون الأُوتوبيوغرافيا صورةَ صاحبها فأَجملُ ما في هذه الـمِرآة أَن تتزيَّا بآنَقِ ثوبٍ تُهْداهُ هذه الصورة: الكلمةُ المطيَّبَةُ اللغة، منسكبةً من كأْس الجماليا، وهي أَعذبُ ما في خمرة الأَدب، وأَنصعُ ما يلتمِعُ به قلمُ غالب غانم.      

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار” (بيروت)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى