علي عبدالله صالح: من هَامِشِ الأُمَمِ إلى صَدارَتِها
صدرَ أخيرًا كتابٌ للزميل فيصل جلول، المعروف بخبرته بشؤون اليمن وشجونها وصداقته بالرئيس الراحل علي عبدالله صالح، بعنوان “حين خرج الماء من صخر الصوّان: علي عبد الله صالح 1942-1912”. وقد اختار الزميل فصلًا خاصًا من كتابه لنشره في “أسواق العرب”.
فيصل جلّول*
كانت عدساتُ المُصَوِّرين وكاميرات الأقنية التلفزيونية الوافدة من جميع أنحاء العالم تتدافع في بهو كنيسة نوتردام دو باري، بحثًا عن وجوهٍ وقاماتٍ وردود افعال الضيوف الأجانب، الذين لبّوا دعواتٍ فرنسية للمُشاركة في “قدّاسٍ وداعي” عن روح الرئيس فرانسوا ميتران في مطالع كانون الثاني (يناير) 1996. فالزعيمُ الاشتراكي الراحل تركَ بصماتٍ بارزة داخل وخارج بلاده خلال ولايتَيه في قصر الإِلِيزيه (1981ــــ1995) وقبلهما، ما جعل من موته مناسبة لاحتشادِ أبرزِ زعماء العالم في”قدّاس” وداعه.
توقفت كاميرات المصوِّرين عند الوجوه البارزة في الكنيسة، وسلّطت اضواءها مرارًا على المستشار الألماني السابق هلموت كول الذي كان يذرفُ دموعًا سخيّة على شريكه الأساسي في المشروع الأوروبي، وجالت على أفارقة وآسيويين ونقلَت ملامحَ وانفعالاتَ زُعماءٍ عرب حضروا المناسبة، كان من بينهم الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح الذي نقلَ بلاده من هامش الأُمم المَنسيّة إلى صدارة المسرح الدولي، بعد غيابٍ طويل، جرّاءَ التقوقع على الذات في عهد الإمامة، والصراعات الأهلية المديدة والانقلابات العسكرية المُتتالية في العهد الجمهوري.
كادت المناسبة أن تمُرَّ بلا حدثٍ مُثيرٍ للجدل لولا انهماك وسائل الاعلام بنقلِ روايةٍ من قصر الإلِيزيه، عن اجتماعٍ مزعومٍ بين علي عبد الله صالح وشيمون بيريز الرئيس الإسرائيلي الراحل، وأنَّ اللقاءَ تمَّ خلالَ احتفالٍ أقامه مساء اليوم نفسه الرئيس جاك شيراك على شرف الضيوف الذين حضروا القداس الصباحي. تحدّثت الرواية التي سرّبتها السفارة الإسرائيلية في باريس عن مُصالحةٍ يمنيةــــإسرائيلية وعن وَعدٍ يمنيٍّ بتطبيعِ العلاقات مع الدولة العبرية، وقيلَ أنَّ اليمن هو البلد العربي الأبرز في شبه الجزيرة الذي سيكسر حاجز العزلة حول إسرائيل.
عادَ الرئيس اليمني من كوكتيل الإلِيزيه إلى فندق “ريتز” المُطِلِّ على ساحةِ “الفاندوم” التاريخية. كان بوسعه أن يُشاهِدَ من جناحه الخاص تمثالًا ل”نابليون بونابرت” يتوسّطُ الساحة مُعتَلِيًا رأس مسلة صُنِعَت من نحاس 1200 مدفع غنمها الإمبراطور الفرنسي من معركة “اوستيرليتز” التي بسطت فرنسا بعدها سيطرتها على أوروبا القارية لعقدٍ من الزمن.
ما أن اجتازَ عتبةَ جناحه حتى نقلَ إليه أحد المُرافقين خبر الإلِيزيه. بدا غير عابئٍ بما أُذيعَ واكتفى بالإشارة إلى مُساعده عبده بورجي لتوزيعِ نفيٍ رسميٍّ للرواية عبر وسائل الإعلام. وشرحَ لقلّةٍ من الحاضرين من بينهم الدكتور عبد الكريم الأرياني والدكتور محمد سعيد العطار والأستاذ محمد اليدومي الوجه البارز ل”الإخوان المسلمين” في اليمن وكاتب هذه السطور، أنَّ الأمرَ اقتصَرَ على مُصادَفة بروتوكولية باردة من دون عواطف أو مشاعر خاصة كما قيل، ولم يتخلّلها نقاشٌ جوهري فما بالك بالتفاوض وقطع التعهّدات، ثم انتقلَ صالح للحديثِ عن مسلة “الفاندوم” و عن كنيسة ” نوتردام ” وسألني عن تاريخ بنائها وعن السبب الذي حمل الفرنسيين على تنظيفها بأشعة الليزر (في حينه) …الخ .
في تلك الجلسة ألَحَ عليّ سؤالٌ لم يُفارقني حتى صياغة هذا النص: كيف استطاعَ علي عبد الله صالح الذي بدأ حياته راعيًا للأغنام ومن ثمَّ جنديًا عاديًا في الجيش الإمامي، ان يَصِلَ إلى احتلالِ مقعدٍ في الصفوف الأمامية بين زعماء العالم الكبار؟
الجوابُ لن يكونَ سهلًا ، ذلك أنَّ الرئيس الذي عرفته عن قرب وحَمّلني ــــــبعيدًا من جهازه الديبلوماسيـــــ رسائلَ و”مُعاتَبات” أنقلها إلى زُعماءٍ وشخصياتٍ مهمّة داخل وخارج اليمن، لا يحب الحديث عن نفسه، أمّا سيرته الرسمية المنشورة فهي تتضمّن إشاراتٍ وتواريخ مُختصرة، رقمية، باردة لا تتيح الإحاطة بظروفِ انتقاله من القاعدة إلى القمّة، فيما المُحيطين به يُفضّلون حديث الدعاية الرسمي المتحفّظ، بل عبارات المديح والتقريظ الثقيلة الظل، و البعضُ الآخر لا يحبُّ الإفصاح عن هويته والإشارة إليه كمَرجَعٍ جدير بالثقة يمكن اعتماده حجّة في حُكمٍ أو مُقارَبة أو استنتاج.
بالمقابل لا يُمكِنُ الاستنادُ حصرًا إلى رواياتٍ هجومية ومُعادية يتناولها خصومُ الرجل ويُرادُ منها شيطنته وإلقاء النتائج السلبية للتاريخ اليمني المعاصر على عاتقه، الأمر الذي أضفى على مهمّتي صعوباتٍ جدّية، تمكّنتُ من تذليلِ بعضها بمساعدة الجنرال علي محسن الأحمر الذي يُعتبرُ واحدًا من بين قلّة من اليمنيين الذين عرفوا الرئيس صالح عن كثب وعاشوا معه منذ الطفولة إلى “الربيع العربي”،(قبل القطيعة في العام 2011 التي تسبّبت بأذى كبير للدولة اليمنية) وسأستند ايضًا إلى بعض أقرباء الرئيس المباشرين وإلى خصومه ومحاربيه وإلى أقوال وتفاصيل وأخبار كُشِفَ النقابُ عنها بعد اغتياله نهاية العام 2017 .
ناصية مقصع
“يا علي يا علي يا علي ي ي ي ي. “هكذا كانت السيدة ناصية مقصع تنادي ابنها الأصغر علي عبدالله صالح عفاش عندما يتأخّر بالعودة إلى البيت مع قطيعِ العائلة المُتواضِع من الأغنام. كان صوتها يتردّد بين الوديان حتى يصل إلى مسامع علي الذي كان يلتقط نداء والدته من بين كلِّ الأصوات وكأنها تخاطبه بجهازٍ لاسلكي، لذا كان يعود فورًا إلى المنزل. سيعيش بعد الثورة المعلوماتية وسيتكيّف مع تقنيات التخاطب بأجهزة ال”آيفون” وال”إنترنت” ال”فورجي” برغبة ثابتة.
كان صوتُ ناصية يلاحقه في الوديان والبراري الأخرى، خارج منطقة سنحان، إذ كان مُلزَمًا بمرافقة أهله وأقاربه وقطعان الأغنام إلى مناطق أخرى قريبة أو بعيدة عندما يضربُ الجفافُ وادي سنحان وبلاد الروس المجاورة. ولعلّه اكتسبَ من تلك الطفولة القاسية خبرةً في مواجهةِ الصعوبات، سترافقه طيلة مسيرته السياسية.
لم ينسَ صالح تلك الفترة القاسية أبدًا. كان يُذكِّرُ بها في مجالسه وخطبه وأحاديثه الصحافية. كان يرويها بجرأةِ القبيلي الذي لا يخجل من ماضيه. أذكُرُ في إحدى المرات التي رافقته فيها إلى بلاد الروس وكان يقود السيارة بنفسه، توقفَ فجأةً أمامَ أرضٍ بعلية وطلب منّا النزول، ثم أشارَ إلى مرافقه عزيز ملفي فجاءه بسكين وربما حربة بندقية ما عدتُ أذكرُ جيدًا. نزل إلى الحقل ثم شرع بقطع أعشابٍ برّية وطلبَ منّا أن نعاينها، وقالَ بأنهُ كان يأكلها عندما كان يسرح مع أغنامه في البراري وأشاد بمنافعها.
وإذ أكملنا طريقنا للعودة إلى صنعاء توقّف أمامَ “بسطة” صبي صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره، كان يبيعُ بطّيخًا أصفر اللون (شمّام)، ما كان يحمل الرئيس نقودًا فسألَ مَن معه نقود فجاءه أحد المرافقين بأوراقٍ نقدية من فئة المئة ريال أعطاها للبائع الصغير الذي كادت علامات الفرح تطير من عينيه، ليس لأنَّ الرئيس أعطاه نقودًا فقط بل لأنه سينقل إلى رفاقه وأهل بيته وأهل القرية تفاصيل حدث لا يمر في هذه البلاد مرور الكرام.
كانت ناصية تعطفُ على ابنها علي بصورةٍ خاصة، فهو آخر العنقود، لكنها تقسو عليه في الوقت نفسه لكي ” يقعْ رجّال” على ما يُقال في العامية اليمنية. سيتأثّر علي بأمه ذات الشخصية المحترمة والقوية المرهوبة الجانب في محيطها ليس فقط في بيت الأحمر، وإنّما في كلِّ وادي سنحان. وسيزدادُ تمسّكًا بها لا سيما بعد وفاةِ والده وهو صغير السن (من 7 إلى 9 سنوات) وسيرعاه من بعد عمّه زوج والدته صالح علي عبد الله صالح وفي فترة لاحقة شقيقه الأوسط صالح عبدالله صالح الذي كان يرعى الاسرة في القرية حيث يُقيمُ وشقيقه الأكبر محمد عبدالله صالح الذي يرعى الأسرة في صنعاء حيث يُقيم، وفي السلك العسكري حيث يعمل.
كان الأب عبد الله صالح عفاش يعملُ مُزارِعًا في أرضه ويعيش حياة مُتقشّفة في منزلٍ مُتواضِعٍ (80 مترًا مربّعًا في طابقَين) تكاد جدرانه تتهاوى،لا يختلف كثيرًا عن منازل الفلاحين اليمنيين متواضعي الحال، وهو ينتمي إلى قبيلة سنحان التي تنتمي بدورها إلى قبيلة حاشد المؤتلفة ولكن بالتحالف وليس بالأسطورة القبلية التأسيسية.
ما كانَ بوسعِ عفاش الأب نقل أسرته إلى مرتبةٍ اجتماعية أعلى، فقد ورث حياة التقشّف عن أهله وسيترك ما ورثه لأبنائه في سيرورةٍ مستمرة منذ زمنٍ لا يمكن حصره، ينتقلُ خلاله أبناء الفقراء من فقرٍ إلى فقرٍ داخل أسوار عالمهم البائس. سيموت عبد الله عفاش في سنٍّ مُبكرة إذ كان متوسّط حياة الناس في هذه المناطق لا يتعدى الأربعين عامًا وسيعيش علي عبد الله صالح طفولة صعبة.
كان عفاش يحب زوجته ناصية مقصع التي أشارت عليه وهو على فراش المرض أن يوزّعَ أراضي العائلة قبل موته. تردّدَ قليلًا ثم رفض لكنه قَبِلَ بعد إلحاحِ سيدة البيت: هذه القطعة لفلان وتلك لفلان والثالثة لفلان إلى أن قاطعته ناصية وطلبت منه حصّتها.
معروفٌ أنَّ النساءَ في اليمن لا يَرِثنَ أراضٍ حتى تبقى الأرض في نطاق العائلة الواحدة. لم يرفض عفاش طلبًا لزوجته في حياته، ولن يرفض وهو على فراش الموت، فكانَ أن أوصى لها بقطعةِ أرضٍ مهمّة. وعندما فرغ من توزيع الحصص لم يبقَ شيئًا لابنه الصغيرعلي. بكت ناصية وسألته عن حصة علي فقال: “هذا حصّته عند الذي يُخرِجُ الماءَ من صخرِ الصوّان“.
لم يُخطئ عفاش الأكبر في توقّعه فقد وصل ابنه الأصغر من قرية” بيت الأحمر” المتواضعة إلى رأس الدولة في الجمهورية اليمنية في مسيرةٍ وظروفٍ قاسية هي أشبه بخروج الماء من حجرِ الصوّان.
سبعون فردًا في حكومة اليمن
وُلِدَ علي عبد الله صالح عفاش في 15 تموز (يوليو) من العام 1942 في قرية بيت الأحمر التابعة لمديرية سنحان الواقعة على بُعدِ 35 كلم جنوب شرق العاصمة وتتبعُ إداريًا لمحافظة صنعاء. بعد وفاة والده عرضت الأسرة على الأم ناصية أن تبقى في كنف العائلة مع أولادها، أو أن تتخلّى عنهم لو احبت أن تعودَ إلى أهلها، فارتضت البقاء مع أطفالها وبالتالي الزواج من صالح علي عبد الله صالح ابن عم زوجها الراحل.
كانت ناصية أنجبت من عبد الله صالح عفاش ثلاثةً من الأبناء الذكور هم محمد وصالح وعلي عبدالله صالح. ولكي تحتفظُ بحضانة أبنائها تزوّجت من ابن عم زوجها كما أشرنا للتو فأنجبت منه ولدَين وبنتًا. ولأنها تحب أولادها من عبدالله صالح عفاش فقد سمّت ولديها الجديدين باسميهما فكان الأول واسمه علي صالح علي عبدالله صالح والثاني محمد صالح علي عبدالله صالح. لذا يلاحَظُ لغطٌ كبير في أسماء اخوة الرئيس اليمني فكيف يكون علي صالح علي عبدالله صالح اخوه ولا يكون حفيده أو ابن أخ شقيقه صالح عبدالله صالح.
أمّا أُسرةُ الرئيس الصغيرة فهي حصيلة أربع زيجات، الأولى من سيدة من آل المسعودي من قرية بيت الأحمر، تُوفّيت في حادثِ سيرٍ في العام 1989 على الطريق البرّي بين تعزّ والحديدة وهي والدة ابنه البكر أحمد فضلًا عن أربع بنات. والزوجة الثانية من آل الحجري والدها رئيس الوزراء الأسبق القاضي عبدالله الحجري الذي اغتيل مع زوجته في لندن في 10 نيسان (أبريل)1977 وقد انجب منها صلاح ومدين وخالد فضلًا عن بنتين.
والزواج الثالث كان من سيّدة من آل الأكوع وقد أنجبَ منها صخر وريدان فضلًا عن بنتينأُاخرَيَين أيضًا. أمّا الزواج الرابع والأخير فكان مع شابة هاشمية من آل الكحلاني ولم يتخلله إنجاب إذ قرّر الرئيس الانفصال عنها بعد أقل من ستة أشهر من عقد القران.
لن تَعرفَ أسرةُ علي عبدالله صالح الكبيرة المُقدّرة بسبعين فردًا خللًا في التضامن بين أفرادها، فشقيقه الأكبر محمد عبدالله صالح (مولود عام 1939 ) انتسَبَ إلى الجندية مُبكِرًا عبر بلوك سنحان الموروث من العهد الأمامي وحاله كحال شقيقه الأصغر، تعلّمَ القراءة والكتابة الأولية في “معلامة” القرية وختم بلغة تلك الأيام “البياض” وحفظ جُزءًا من القرآن الكريم.
انقَطَعَ عن الدراسة بعد وفاةِ والده ليعمل في الزراعة ورعي الماشية حتى بلغ سن ال17 عامًا (1956) حيث التحقَ بسلك الجندية. سيكتَسبُ الخبرات والمعارف من عمله في الجيش. كان موقعه العسكري الأول في الحديدة حيث أكمل تأهيله الدراسي عبر فقهاء المدينة المُتعاوِنين مع الجيش وواصلَ تأهيله العسكري في مدرسة الأسلحة النظامية حيث أتقنَ استخدام السلاح الثقيل والمتوسط (مدفع م/ط 37 ورشاش 7,12) وعادَ إلى صنعاء ليلتحق بمدرسة الضباط ويتخرّج منها بعد سنتين برتبة صف ضابط. كانت المدرسة في حينه بإدارة محمد العُلُفي ومُدَرِّسين مصريين استعان بهم الإمام أحمد حميد الدين لتحديث جيشه. سرعان ما تدرّجَ محمد عبد الله صالح من ضابطٍ حديثِ التخرّج إلى مدرّس في الكلية الحربية (العرضي) وبقي في هذا المنصب حتى اندلاع الثورة الجمهورية في العام 1962 حيث اختُيرَ ضمن نخبةٍ من الضباط لحماية مكتب قادة الثورة الكبار”عبد الله السلال وعبد الله جزيلان وعبد الله الجائفي“. وفي اليوم التالي كُلِّفَ مع مجموعةٍ من زملائه بمطاردة الإمام البدر. لم يتوقف عن القتال دفاعًا عن الثورة في مواقع عديدة وستجمعه المعارك ببعض قادتها الكبار: حسن العمري وعبد الله السلال والرئيس المقبل إبراهيم الحمدي.
تولّى في العهد الجمهوري قيادة ألويةٍ عديدة في الجيش حتى وصوله إلى آخر المناصب وهو تأسيس وقيادة جهاز “الأمن المركزي” في العام 1990. لينشغل من بعد في توفير الحماية للحُكمِ الوحدوي.
أخذَ محمد عبدالله صالح على عاتقه تربية شقيقه الفتى علي وتدريبه ووضعه تحت رعايته في الجيش وهو الذي اكتسب خبرة مهمة في أروقة المؤسسة العسكرية. سيتحدث الرئيس عن شقيقه في مناسباتٍ عديدة بوصفه مُعينًا وراعيًا ومُوَجِّهًا وناصحًا يُدينُ له بصعوده ووصوله إلى رأس الدولة في اليمن.
أُصِيبَ علي عبدالله صالح بصدمةٍ كبيرة عندما توفي شقيقه جرّاء مرض الكبد المُزمِن، وكان لم يدّخر جهدًا لعلاجه في أفضل مستشفيات العالم. كانَ لا يمرّ في سنحان وفي قريته بيت الأحمر إلّا ويذهب لقراءة الفاتحة على قبره. وقد شاءت المصادفات أن أكون برفقته في جولة ثانية على سنحان كان يقود السيارة بنفسه (كعادته) عندما انعطفَ نحو “بيت الأحمر” وانتقلنا إلى حيث ضريح محمد عبد الله صالح فدخلنا إلى المصلى المُحاذي للضريح وصلّينا وقرأنا الفاتحة عن روح الفقيد. في تلك اللحظات كانت ملامح علي عبد الله صالح أشبه بملامح قروي فَقَدَ للتو عزيزًا وذلك رُغمَ مرورِ أكثر من خمس سنوات على وفاة شقيقه.
سينتقلُ اهتمامُ صالح إلى أبناء شقيقه الأكبر يحيى وطارق وعمار ومحمد وسيتولى الأشقاء الاربعة مواقع أساسية في المؤسسة العسكرية. سيُعَين يحيى رئيسًا لأركان قوات الأمن المركزي. وطارق قائدًا للحرس الخاص الرئاسي وسيكون عمّار وكيل جهاز الأمن القومي للعلاقات الخارجية، في حين سيتولى محمد قيادة كتيبة في الحرس الخاص.
سيعتني الرئيس صالح بتربية أولاد شقيقه مباشرة. كان يقسو عليهم حين يستدعي الأمر القسوة إحترامًا للبروتوكول وبخاصة يحيى الأقرب إليه لأنه تزوّج ابنته البكر بلقيس وجدّ ابنه كنعان الذي سينقذه أثناء انفجار مسجد دار الرئاسة (3 حزيران/يونيو 2011) وسيحمله إلى مستشفى العرضي في اللحظة المناسبة، لكن كنعان سيموت كمدًا بعد تخرّجه من الكلية الحربية العُمانية ولن يتحمّلَ نتائج اغتيال الجدّ الذي ترعرع في حضنه حتى صار مُقاتلًا ومصدرَ فخرٍ للأسرة كلّها.
وسيبقى طارق إلى جانب الرئيس حتى الساعات الأخيرة قبل اغتياله. أمّا عمار فقد خرج من الحصار على صنعاء في العام 2016 بطلبٍ منه لإدارة الاتصالات الخارجية. وكان يحيى سبق الجميع فاستقرَّ في لبنان فور مبادرة الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي إلى إعادة هيكلة المؤسّسة العسكرية وإقالته من رئاسة أركان “الأمن المركزي” (19 كانون الأول/ديسمبر 2012).
كان شقيق الرئيس المتوسّط صالح عبدالله صالح عفاش (1940) شخصية مُمَيَّزة داخل الأُسرة. انخرطَ كإخوته في الجيش اليمني، لكنه استقال من بعد وعمل تاجرًا للعقارات والسلاح أيضًا. تدرّجَ في التعليم الابتدائي في القرية وأكمل تأهيله العلمي البسيط في الجيش. كان معروفًا براديكاليته ونزعته الاحتجاجية وميله اليساري والعلماني. ولكن القدر شاء أن يغيبَ جرّاء إصابته بسرطان الدم، علمًا أنَّ شقيقه الرئيس أرسله إلى دولٍ أوروبية عديدة للعلاج من دون جدوى. لصالح الأخ نجلَين هما توفيق وتيسير ويتضح من تسمية أولاده ومن مواقف أخرى أن شقيق علي عبدالله صالح الأوسط كان ميّالًا إلى الأفكار اليسارية والحديثة شأنه شأن جيل من الشبان اليمنيين الذين تأثروا بالتجربة الجمهورية المصرية أو السورية والعراقية.
بعدَ وفاة صالح سيتولى الرئيس رعاية أولاده أيضًا وستكون التربية في عهدته وستتزوج ابنة صالح عبدالله صالح عفاش من أحمد علي عبدالله صالح نجل الرئيس البكر، أمّا توفيق صالح فسيتخرّج من أفضل الجامعات الأميركية وسيتولّى رئاسة مجلس إدارة شركة التبغ الوطنية ويُنقذها من الخسارة في حين سيتولى شقيقه تيسير الذي تخرج من كلية ويست بوينت العسكرية موقعًا قياديًا في جهاز الحماية الشخصي التابع للرئيس. وكما هي الحال مع يحيى محمد عبد الله كان الرئيس يقسو أيضًا على توفيق صالح عبد الله الذي كان يغيب عن الحراسات الشخصية بسيارته الخاصة في فترة المراهقة للقاء أصدقائه بعيدًا من البروتوكول الصارم، لكن الرئيس استدعاه ذات يوم غاضبًا وصادرَ مفاتيح سيارته وأنذره بعقابٍ أقوى إن هو أعاد الكرة. في تاريخٍ لاحق سيتزوج مازن توفيق من إحدى بنات الرئيس الأمر الذي سيُعزّز أواصر القُربى داخل الأُسرة.
أمّا بقية الأُسرة، وبخاصة أخوَيّ الرئيس من والدته، فقد تخرّجا من كليات عسكرية معروفة. تولّى أخوه علي صالح علي عبدالله صالح رئاسة الحرس الجمهوري ومحمد صالح علي عبدالله صالح رئاسة أركان القوات الجوية، ولا نعرف مع الأسف تفاصيل أخرى مهمة عن سيرة الأخويين سوى ما تناقلته وكالات الأنباء من أنَّ العميد محمد صالح قد التحق في العام 2018 بقوات “الشرعية اليمنية” وأنَّ الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي عيّنه قائدًا لقوات الاحتياط العسكرية حيث يقيم خارج اليمن.
تُوفيتْ ناصية مقصع في العام 1975 قبل أن يتولى نجلها رئاسة الجمهورية، لكن زوجها صالح لن يكفَّ عن الزواج مُثنّى وثلاثًا ورباعًا، ويُروى أنه حاول أن يتزوَّجَ من سيدة مصرية، لكنَّ الرئيس حالَ دون هذا الزواج.
لا تتعدّى أُسرة الرئيس علي عبد الله صالح المباشرة ال70 فردًا يملكون معظم أراضي قريتهم (بيت الاحمر)، وستُبدي هذه الأسرة تضامنًا في كل الظروف، ولن تُسجِّلَ انشقاقًا واحدًا بين صفوفها.
- فيصل جلّول هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في باريس.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.