شفافيةُ الإِزميلِ تَختَرِقُ صلابةَ الرُخام (1 من 2)
هنري زغيب*
يمكن الاندهاش أَمام لوحة تَـمَكَّن رسامُها العبقري من إِخضاع ريشته لرسم وشاح شفَّاف على وجهٍ لا يغطِّي منه الوشاح معالِمه الدقيقة. ذلك أَنَّ الرسام قد يتحكَّم بشُعَيْرات ريشته كي ينسُج الوشاح الشفَّاف بدِقَّة. أَمَّا أَن يتمكَّن نحَّاتٌ من التحكُّم بإِزميله كي “ينحت” في الرُخام الصلْد الصلْب الكثيف وشاحًا شفَّافًا لا يغطِّي ما تَحْتَهُ من معالِم الوجه الدقيقة، فهذا لم يعُد اندهاشًا بل صار معجزة فنية إِبداعية فريدة لا يبلُغها سوى نحَّات عبقري فريد.وهذا ما بلغَه النحَّات الإِيطالي جيوفانّي سْتْراتْسَا (1818-1875) في منحوتته الرائعة الخالدة “العذراء الموَشَّحة” (ترجيحًا 1850 إِبَّان عمله في روما).
الرائعة النحتية الفريدة
يُجْمِعُ النقَّاد ومؤَرخو الفنون أَن تمثال “العذراء الموشَّحة” رائعة فريدة في تاريخ النحت العالَمي، تتمتَّع بتقْنية خاصة لا يبلغها النحَّاتون العاديُّون. فليس عاديًّا أَن ينجح نحّات في جعل سماكة الحجر أَو الرخام شفَّافةً تمامًا. من هنا فرادة جيوفانّي سْتْراتْسَا في موهبته وحذاقته ودقة استعماله الإِزميلَ بهذه البراعة النادرة في تقْنيَّتها النادرة. ولذا تنفرد “العذراء الموشَّحة”، منحوتتُه في رخام كارارا الأَبيض ليس فيه أَيُّ خِمْش خاطئ، بأَنها من أَكثر التماثيل والمنحوتات فرادةً مدهشةً في تاريخ النحت، لِما في ملامحها خلف الوشاح من صفاء وأُنوثة. ويذهب بعض النقَّاد إلى تقريبها من منحوتة “المسيح الموشَّح” أَو “المسيح في الكفَن”(1753) في رخام كارارا كذلك، للنحات الإِيطالي الآخَر جيوزيبي سان مارتينو (1720-1793) الموجودة في كنيسة سانسيفيرو – نابولي.
ضآلة المعلومات
الغريب أَن موسوعات الفنون وكتُب التأْريخ الفني لم تتوسَّع في سرد مسيرته. معظم ما وصلنا عنه أَنه وُلِدَ في ميلانو (1818) وانتسب إِلى أَكاديميا الفنون في بريرا (تأَسست في ميلانو سنة 1776) ثم انتقل إِلى روما يدرس في محترف بياترو تيريناري ويعمل فيه بين 1840 و1858، ليعود سنة 1860 إِلى ميلانو يُدَرِّسُ النحت حتى وفاته (1875).
بين الروحانية والقلق
الناقدة الفرنسية كلير باربيُّون (م. 1960، اختصاصية في تاريخ النحت لفترة النصف الآخر من القرن التاسع عشر، مديرة “معهد اللوفر” في باريس وصاحبة الكتاب الشهير “كيف نقرأُ المنحوتة – أَلف عام من النحت الغربي” – باريس 2017)، ترى أَنَّ عينَي مريم العذراء الـمُغمَضَتَيْن في المنحوتة تشيران إِلى الروحانية والتأَمُّل الداخلي، فيما قماشةُ الوشاحِ المبلَّلَةُ التي “تغَطِّي” وجه العذراء ترمز إِلى قلق خارجي في ملامح ثناياها، والفارق بين الخارجيّ والداخليّ يعطي الشعور بنقاء العذراء مريم الفريد.
هذه المنحوتة موجودة حاليًّا في كندا، داخل بازيليك القديس يوحنا المعمدان في مدينة “سانت جونز” (جزيرة قبالة شاطئ كندا على الأَطلسي)، حمَلَها من روما سنة 1856 الأُسقُفُ الكَنَدي جون مولُّوك Mullock (1807-1869) وأَهداها إِلى البازيليك سنة 1862.
الشفافية المذهلة
تُذهل في هذه المنحوتة شفافيَّتُها التامة، كأَنَّ الوشاح من قماشٍ شفافٍ يغطي الوجه، فيما الوجه منحوت من الرخام الكاراري ذاته. وهنا عبقرية النحات اللومباردي جيوفانّي سْتْراسَّا أَن يكون طوَّع الرخامَ لرؤْيته النحتية، والرخام أَقسى أَنواع الصخور على وجه الأَرض. وما يثير التساؤُل أَنَّ وسائط التواصل الإِلكتروني تتناقل صورة هذه المنحوتة وليس عنها كثيرُ شرحٍ بالرغم من شهرتها العالَمية.
… أَو أَيِّ صبية أُخرى
صحيح أَنَّ طابع المنحوتة دينيّ، وغير معروفة التفاصيل عنها، لكنَّ البعض من مؤَرِّخي الفنون، وتحديدًا فن النحت، رأَى فيها أَيَّ صبية أُخرى، وليس بالضرورة أَن تكون مريم العذراء هي المقصودة بإِزميل النحات. فالعُذرية صفة عامة للطهارة والنقاء والروحانية. ومن هنا، في الأَساطير الرومانية، “عذارى ڤِسْتَا” (أَي كاهنات الإِلهة العذراء ڤستا) المعنيَّات بالحفاظ على النار المقدسة كي تبقى شاعلة. وأَيًّا تكُن المقصودة، مريم أَو أَيَّ صبية عذراء أُخرى، فالجوهر هو النقاء الذي لا يشوبه حسُّ الجسد ولا خيال الشهوة. من هنا أَنَّ ما يلفت في الوجه عند النظرة الأُولى إليه، هو هذا الغموض بين إِبراز الروحانية في العينين المغْمَضَتَيْن، والغموض في سماكة الوشاح التي تجعله متموِّجًا بما يخبِّئْ بعض ملامح تلك الروحانية.
الرخام العنيد
النحت في المرمر تقليد قديم في إِيطاليا منذ القرن الثامن عشر، وخصوصًا في نابولي, وهو يقوم على نحت الرخام في براعة خاصة وصعبة، يرافقها الغموض بين ما يَظْهر على الوجه وما يُخْفيه عن النظَر. وفي النحت الإِغريقي القديم دَرَجَ تقليد “الوشاح المبلَّل”، وهو تَحَدٍّ كان مطرُوحًا أَمام النحاتين بنَحْت الوجه وإِبراز التعابير المختلفة في ملامحه بين الواضح منْها والـمُضْمَر.
هذا هو السؤَال الذي يتشكَّل عند التمعُّن في وجه منحوتة “العذراء الموشَّحَة”، عدا براعة النحات في شفافية الوشاح الذي ينهدِلُ على الوجه. هذه البراعة المذْهلة هي التي، من زمان بعيد، تسْلُبُ انتباه الناظرين إِلى المنحوتة، بتقْنية نحتها النادرة والفائقة الدقَّة، وخصوصًا أَنَّ النحات أَعْمَلَ إِزميله في رخام صلْب عنيدٍ قلَّما يخترقه إِزميل، ومع ذلك يبدو الإِزميل هنا طائعًا براعةَ النحات بما يكسر طبيعة الصلابة والجَلمَد. وهذا التناقض هو الذي يثير الإِعجاب، بين الصلابة والرقَّة، بين الغموض والوضوح، وبين صفاء النقاء وإِثارة الأُنوثة.
(تتمةُ الضوء على هذه الرائعة النحتية الخالدة في الجزء المقبل من هذا المقال).
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.