ثاتشِرِيَّة تُهدِّدُ النقابات في فرنسا

محمّد قوّاص*

للمُغنّي الفرنسي المُلتَزِم “رينو” أُغنية شهيرة بعنوان “Miss Maggie” صدرت في العام 1985 وأثارت جدلًا فرنسيًا بريطانيًا آنذاك. عبّرت كلمات الأغنية عن إشادةٍ بالنساء مُقارنةً بالأهوال التي يرتكبها الرجال، لكن الأغنية ردّدت لازمةً بَعدَ كلِّ إشادةٍ بالنساء تقول: “ما عدا مدام ثاتشر”. ولا ريب هذه الأيام أنَّ نقابات فرنسا تُصارِعُ لإِبعادِ ثاتشريةٍ مُحتَمَلة تُهدّدُ امتيازهم الفرنسي العتيق.

في ذاكرةِ النقابات في فرنسا ما حَلَّ بالهياكل النقابية في بريطانيا بعد أن خسرت معركتها في ثمانينات القرن الماضي. ومن يُتابع هذه المواجهة الطاحنة الجارية حاليًا بين نقابات فرنسا وحكومتها يستنتج أن هذه الوحدة النادرة التي طرأت على النقابات المُنقَسِمة في ما بينها عادةً، مردّها الأساسي إلى شعورٍ جماعي بالخطر الوجودي الذي تواجهه وحرصها على عدم تمدّد العدوى البريطانية القديمة إلى نقاباتهم.

وتعودُ “المعركة البريطانية” إلى الفترة الثانية من حكم رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر حين واجهت إضراب عمّال المناجم، في العامين 1984 و1985، الذي قاده النقابي ارثر سكارجيل. وتتحدّث الكتب التي تروي سيرة الزعيمة البريطانية عن مشاعر التحدّي التي انتابتها حينذاك واعتبرتها مُهَدِّدَةً لزعامتها على رأس حزب المحاافظين والبلاد.

ولمواجهة التحدّيات لجأت ثاتشر إلى تدخُّلٍ حكوميٍّ مُباشِر في البنى التحتية الإنتاجية لقطاع الفحم، وقدّمت قوانين ضد النقابات تمّت المصادقة عليها داخل مجلس العموم ما سدّدَ ضرباتٍ مُوجِعة للجسم النقابي. وقد أضعف الأمر نفوذ النقابات حتى الآن مُقارنَةً بما تمتلكه نقابات فرنسا من نفوذ تاريخي مُتجذّر هو جزء من تاريخ الحركة العُمّالية في البلاد.

ويجري الصراعُ حاليًا بين الحكومة والكتل العاملة بشأن قانونٍ لإصلاح نظام التقاعد في فرنسا كان جُزءًا من برنامج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الانتخابي. وتقوم فلسفة الإصلاحات على تقييمٍ اقتصادي تُدافِعُ عنه الحكومة، التي ترأسها إليزابيت بورن، مفاده أن الوضعَ الاقتصادي للبلاد لم يعد يسمح بتمويل نظام التقاعد في شكله الحالي، وأن ارتفاعَ المعدّلات العمرية بات يسمح برفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، علمًا أن ماكرون كان اقترح قبل ذلك رفع سنّ التقاعد إلى 65 عامًا وتراجعت الحكومة عن ذلك كتنازلٍ ومرونةٍ لتسهيل إقناع البرلمانيين المتردّدين، لا سيما كتلة حزب “الجمهوريون” الديغولي، بالتصويت لصالح القانون الجديد.

وترى حكومةُ باريس أن مشروعَها يتّسقُ مع الظروف الاقتصادية الراهنة والتي تغيّرت ولم يعد بإمكانِ الكتلة العاملة حاليًا تمويل المتقاعدين إلّا إذا تمّ رفع الاستقطاعات المالية وخفض معاشات التقاعد، وهو أمرٌ لا يتحمّله المجتمع الفرنسي الذي تُفيدُ الاستطلاعات أن همّه الأول يدور حول “القدرة الشرائية” قبل أيِّ أولوِيّات أخرى.

وتُحاجِجُ الحكومة أيضًا بأن القانون المُقترَح يتّسق مع ما هو معمولٌ به لدى أغلبية الدول الأوروبية التي سبقت فرنسا في رفع سنّ التقاعد. وفرنسا هي من الدول القليلة (اليونان وإيطاليا ولوكسمبورغ وسلوفينيا مثلًا) التي لم ترفع من بين دول أوروبية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي سنّ التقاعد (بريطانيا: 66 عامًا، ألمانيا: 67 عامًا مثلًا).

بالمقابل يلاقي القانون معارضةً شرسة من عددٍ من الكتل السياسية لا سيما كتلة اليمين المتطرّف (التجمّع الوطني) الذي تقوده مارين لوبَن وتحالف اليسار الراديكالي (NUPES) الذي يقوده جان لوك ميلنشون. ولم تضمن الحكومة تصويتًا كافيًا لليمين الوسط. وقد تمّت المصادقة على القانون من قبل مجلس الشيوخ في 16 آذار (مارس) الجاري بأعلبية 193 صوتًا مقابل 114. وقد استنتجت الحكومة تعذّر حصولها على الأصوات الكافية لتمرير القانون داخل الجمعية الوطنية. ونُقِلَ عن ماكرون قوله في اجتماعٍ للحكومة، الخميس، إنه “لا يمكن التلاعب بمستقبل فرنسا” دافعًا باتجاه استخدامِ مادةٍ في الدستور الفرنسي تُتيحُ للحكومة تمرير قوانينها من دون تصويت البرلمان.

وعلى الرُغمِ من الطابع القهري لهذا البند الذي يتجاوز التصويت البرلماني، غير أن ماكرون حاجَجَ بأن التصويتَ بالإمكان إجراؤه على الثقة بالحكومة. وبالإضافة إلى ما تسمح به المادة (49-3) من صلاحياتٍ للحكومة غير أنها تسمح أيضًا بالتصويت بالمقابل على الثقة بالحكومة إذا ما طلبت كتلة برلمانية ذلك. وتقدّمت كتل برلمانية بالفعل بهذا الطلب ما سيُخضِع الحكومة لهذا التصويت الذي قد يطيح حكومة بورن إذا ما حظي بأغلبية 287 صوتًا من عدد مقاعد البرلمان البالغة 573 مقعدًا.

وإذا لم تحصل مفاجأة فالأرجح أن لا تستطيع أصوات الكتل التي تقدّمت بطلب التصويت على الثقة بالحكومة تأمين هذه الأغلبية يوم الإثنين، خصوصًا أن زعيم حزب “الجمهوريون” الديغولي إيريك سيوتي كان أعلن أن كتلة الحزب البرلمانية لن تصوّتَ على أيِّ اقتراعٍ لنَزعِ الثقة عن الحكومة، لكن عدم التزام بعض نوّابه أمرٌ وارد. وإذا ما فشل البرلمان في إسقاط الحكومة فإن قانون التقاعد يُصبِحُ نافذًا ما لا يترك للمعارضة والنقابات إلّا الأساليب الميدانية من مظاهرات وإضرابات عامة.

وتعكس أعمال الشغب التي اندلعت في قلب العاصمة باريس حالة انقسام خطيرة بين المنطق الحكومي والمنطق النقابي المتسلّح بالمعارضة البرلمانية من اليمين واليسار. وعلى الرُغم من سلميّة الاحتجاجات التي قادتها النقابات مُجتَمِعة ضد قانون إصلاح نظام التقاعد في الأسابيع الأخيرة بعدما كانت المظاهرات النقابية تجري في الأعوام السابقة منفصلة، فإن ما شهدته باريس من أعمال عنف وشغب يؤشّر إلى احتمال عدم قدرة النقابات على الاستمرار بالتحكّم بالشارع والسيطرة على حراكه.

أن يمرَّ القانون من دون المرور بتصويتٍ برلماني فهذا فشلٌ لماكرون ولأسلوب رئيسة الحكومة بورن المُحتَمَل أن تدفع ثمن ذلك. ثم أن احتمالات قيام ماكرون بحلّ البرلمان يبقى واردًا في لحظة ما إذا ما أجاد استشراف ميزان الأرباح والخسائر. حتى الآن لا شيء يعد بأنَّ أيَّ انتخابات ستمنح الرئيس الفرنسي برلمانًا أفضل مما هو عليه الآن.

بالمقابل فإن المعركة وصلت إلى حدودٍ شرسة ما بين الأجندات الاقتصادية التي تُنظِّم النظام الليبرالي الاقتصادي والكتل العمالية التي تسعى للحفاظ على مُكتسباتٍ اجتماعية ما برحت تتآكل وتُفاقِمُ ظروف الجائحة وحرب أوكرانيا والضغوط الاقتصادية من تراجعها. والأمر يمثّل أيضًا معركة قد تُهدّدُ مكانَةَ النقابات وهياكلها داخل سوق العمل لجهة أن نفوذها في فرنسا بات استثناءً داخل المشهد النقابي العام في أوروبا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى