في العراق، الحُظوظُ السِياسيّة لإقليم كردستان تتلاشى

يلعَبُ الصَدَعُ بين الأكراد، مثل العوامل الاقتصادية، دورًا في توازن العنف المُتَغَيِّر الذي يُعيدُ تشكيل العلاقات بين بغداد وأربيل.

بافل طالباني مع نوري المالكي أحد زعماء “الإطار التنسيقي الشيعي”: حوار تنسيقي ضد بارزاني.

ريناد منصور*

في الشهر الفائت، اشتبك الجيش العراقي مع قوات البشمركة الكردية في منطقة مخمور، ما أدّى إلى وقوع إصاباتٍ مُتَعَدّدة ومقتل ثلاثة جنود من كل جانب. ورُغمَ أنَّ مثلَ هذه الاشتباكات برزت بشكلٍ بارزٍ في تاريخ المنطقة على مدى القرن الماضي، فإنَّ الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة للعراق قبل 20 عامًا كان إيذانًا بتسوية سياسية جديدة في بغداد، بدأ بموجبها زعماء البلاد الشيعة والأكراد والسنّة تقاسم السلطة. هذا الواقع الجديد حَوَّل منطق العنف العرقي والطائفي في البلاد من الإقصاء، أي الذي يهدف إلى إسقاط الحكومة، إلى الشمول، أي إلى وسيلةٍ للتفاوض على السلطة داخل النظام السياسي. وينبغي النظر إلى أعمال العنف الأخيرة في مخمور في ضوء ذلك.

على السطح، كان الاشتباك نتيجةً لفراغِ السلطة الناجم عن رحيل حزب العمال الكردستاني من المنطقة في تشرين الأول (أكتوبر)، وهو منظمة سياسية كردية مسلحة عابرة للحدود الوطنية تقاتل من أجل الحقوق الكردية في تركيا وسوريا. وقد عزّزَ حزب العمال الكردستاني سلطته على أجزاء كثيرة من المنطقة، لا سيما في أعقاب الهزيمة الإقليمية لتنظيم “الدولة الإسلامية” في العام 2017. وتَنظُرُ كلٌّ من بغداد وأربيل إلى حزب العمال الكردستاني، الذي تم تصنيفه على أنه تنظيمٌ إرهابي من قبل تركيا والولايات المتحدة، كمشكلة. وقد تمكّنا، بالتعاون مع تركيا، من إخراجه فعليًا من مخمور.

إنَّ قيامهما بعد ذلك بتوجيه بنادقهما إلى بعضهما البعض له علاقة بالتحوّلات الأوسع في عراق ما بعد صدام، عندما أصبحت مخمور ومناطق أخرى في شمال العراق تُعرَفُ ب”المناطق المُتنازَع عليها” – وهي منطقة من الأرض يتقاسمها الأكراد والعرب وغيرهما من العرقيات والأقليات الدينية التي يدّعي الجميع أنها تنتمي إليه. وعلى الرُغم من أن الدستور العراقي لعام 2005 حدَّدَ عملية تسوية هذه المطالبات، إلّا أنَّ الصراعَ في هذه المناطق لم يتم حلّه أبدًا. وبدلًا من ذلك، أصبحت المناطقُ ساحاتٍ يتمُّ فيها اختبار “توازن العنف” بشكلٍ دوري كجُزءٍ من المفاوضات بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل. ويشير التوازن الناتج الذي تم إنشاؤه بعد ذلك إلى الحالة المُتغيِّرة لعلاقات القوّة بين الجانبين.

في السنوات الأولى بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، نجحت أربيل في التفاوض على حُكمٍ ذاتي كبير بعيدًا من بغداد، ما دفع الكثيرين إلى القول بأنها دولة بحكم الأمر الواقع وليست منطقة فيدرالية داخل الدولة العراقية. ادّعت حكومة إقليم كردستان احتكارها للعنف في أراضيها، وأدارت سياساتها الداخلية والخارجية، وصدّرت النفط والغاز الخاص بها إلى تركيا وأماكن أخرى. وكان الكثير من نجاحها يعتمد على حكومةٍ ضعيفة وغير مُتماسكة في بغداد، فضلًا عن الدعم من واشنطن الذي سبق غزو العام 2003.

غالبًا ما تَظهَرُ التوتّرات والتحوّلات في توازن العنف في المناطق المُتنازَع عليها. على سبيل المثال، في العام 2014، عندما استولى تنظيم “الدولة الإسلامية” بسرعة على الموصل وأجزاءٍ أخرى من العراق، استغلّت أربيل ضعف بغداد للمطالبة بمحافظة كركوك المُتنازَع عليها. ومع ذلك، تحوّلَ التوازن مرة أخرى بعد الاستفتاء الفاشل على الاستقلال الذي أجرته حكومة إقليم كردستان في العام 2017، عندما أرسلت بغداد “القوية” قواتها الحكومية والقوات شبه العسكرية المرتبطة بقوات “الحشد الشعبي” ذات الغالبية الشيعية لاستعادة المحافظة.

اليوم، يتغيّرُ التوازن بين بغداد وأربيل مرة أخرى. وتحظى الحكومة المركزية الجديدة لرئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني بدعم “الإطار التنسيقي الشيعي”، وهو ائتلافٌ من الأحزاب التي تصدّت لمحاولة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر تشكيل حكومة “أغلبية” بعد انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2021. أراد الصدر وحليفاه الرئيسيان -الحزب الديموقراطي الكردستاني والزعيم السنّي محمد الحلبوسي- استبعاد كبار قادة “الإطار التنسيقي الشيعي” من حكومتهم المُقترحة، مُبتعدين بذلك من الحكومات التوافقية التي حدّدت النظام السياسي بعد العام 2003. وقد فشلت محاولتهم، وبدلًا من ذلك يتولى “الإطار التنسيقي الشيعي” الآن السلطة في بغداد، ساعيًا إلى ضمان عدم تكرار مثل هذا التهديد مرة أخرى، فضلًا عن استعادة سلطة الحكومة المركزية بعد سنوات من التشرذم.

كان لقرار الحزب الديموقراطي الكردستاني الانحياز إلى مسعى الصدر عواقب على إقليم كردستان. يزعم رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني، وهو أحد كبار قادة الحزب الديموقراطي الكردستاني، أنه منذ انتخابات 2021، واجهت حكومة الإقليم أحكامًا قضائية غير عادلة ومُسَيَّسة من بغداد. لقد فرضت المحكمة الاتحادية العليا قيودًا على صادرات النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان وأعلنت أن قانون النفط والغاز في الإقليم غير دستوري. ودعت الهيئات الحكومية إلى إجبار حكومة إقليم كردستان على تسليم النفط المنتج من حقولها النفطية وإلغاء عقود النفط معها، بينما طالبت المحكمة حكومة إقليم كردستان بالسماح بمراجعة التزاماتها المالية. وتقول أربيل إنه نتيجة لهذه الأحكام، احتجزت الحكومة الفيدرالية 2.6 تريليوني دينار عراقي، أو 2 ملياري دولار، من مخصصات الحكومة المركزية منذ كانون الثاني (يناير) 2023.

وقد أدت التداعيات المالية لأحكام المحكمة إلى إضعاف سلطة أربيل في مواجهة الحكومة المركزية. هذا الواقع الجديد المُتَمَثّل في بغداد الأكثر عدائية وقوة وحكومة إقليم كردستان التي تعاني اقتصاديًا، دفع بارزاني إلى إرسال رسالة في أيلول (سبتمبر) إلى الرئيس الأميركي جو بايدن يطلب فيها من واشنطن -الحليف التاريخي للحزب الديموقراطي الكردستاني- التدخّل نيابةً عن أربيل في بغداد. ولكن مع تمتّع واشنطن بنفوذٍ أقلّ في العراق في السنوات الأخيرة، سافر بارزاني في نهاية المطاف إلى بغداد في منتصف أيلول (سبتمبر) للمصالحة مع “الإطار التنسيقي الشيعي”.

ومما يزيد من إضعاف الموقف التفاوضي لإقليم كردستان العلاقات المتوتّرة بين الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، الحزبين المتنافسين اللذين سيطرا على السياسة الكردية العراقية منذ عهد صدام. وتعني هذه التوترات أنه على عكس ما حدث في العام 2003، عندما وَحَّدَ الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني قواهما لتعزيز المصالح الكردية في فترة ما بعد صدام مباشرة، فإنَّ القيادة الكردستانية لا تُمثّل جبهة مُوَحَّدة عند التفاوض مع بغداد. على العكس من ذلك، غالبًا ما يتنافس بارزاني وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني مع بعضهما البعض. وبينما اتخذ “الإطار التنسيقي الشيعي” موقفًا عدائياً تجاه الحزب الديموقراطي الكردستاني، فإنَّ قيادته تحافظ على علاقات أقوى مع الاتحاد الوطني الكردستاني.

ويلعب هذا الصَدَعُ بين الأكراد، مثل العوامل الاقتصادية، دورًا في توازن العنف المُتَغَيِّر الذي يُعيدُ تشكيل العلاقات بين بغداد وأربيل. على هذه الخلفية، فإنَّ العنفَ الذي يظهر في مخمور وأجزاء أخرى من المناطق المُتنازَع عليها ليس تمرّدًا، لأنه لا يسعى إلى إسقاط النظام السياسي الذي ساد بعد العام 2003. بدلًا من ذلك، فهو جُزءٌ من التنافس على السلطة بين النُخَبِ الحاكمة في العراق، وهو التنافس الذي يستخدم آليات قانونية وسياسية وقسرية. وفي هذه الحالة فإنَّ العنف ما هو إلّا أداة مساومة أخرى للتفاوض على سياسات القوة في العراق. وفي الوقت الراهن، يظهر أن بغداد لها اليد العليا.

  • ريناد منصور هو زميل باحث أول في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس” ومدير مشروع مبادرة العراق في المؤسسة. يمكن متابعته عبر تويتر (x) على: @renadmansour

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى