لبنان: هل يَستَمِرُّ الانتظار حتى الاحتضار؟

الدكتور ناصيف حتّي*

في خِضَمِّ معركة الانتخابات الرئاسية في لبنان، وقد دخلَ الشغورُ الرئاسي شهره الخامس، ما زلنا  نَستَمِعُ إلى قراءاتٍ وتحليلاتٍ سياسية بعضها من نوع التنبُّؤات، الذي لا يستندُ إلى أيِّ وقائع أو معطياتٍ مُحَدَّدة، وبعضُها الآخر من نوعِ التمنّيات حيث يختلط التمنّي بالقراءة السياسية، وتتحدث كلها عن انتهاء الشغور الرئاسي في مواعيد شبه مؤكّدة خلال أشهرٍ قليلة أو أكثر. البعضُ يراهن على تعب الفريق الآخر لكسر الجمود الحاصل، والبعضُ الآخر يُراهِنُ على تَغَيُّرٍ في موازين القوى الخارجية في الإقليم والمؤثّرة في الوضع اللبناني. بالطبع كلٌّ يرى ذلك لمصلحة فريقه وحسب قراءته للتطوّرات والمُتَغَيِّرات التي تحملها هذه التطورات للخروج من حالة الجمود القاتل. الجمودُ الذي تزداد كلفته كل يوم: إنه نوعٌ من لعبة عضّ الاصابع أو مَن سيصرخ (يستسلم) أوَّلًا وبالتالي يُقدّم التنازل المطلوب .

“مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان” عبّرت عن قلقها البالغ من انعكاساتِ استمرارِ الشغور الرئاسي في ظلِّ غيابِ الإصلاحات المطلوبة والضرورية. البنك  الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يُذكّرنا بأولوِيّات لبنان في السنة الجارية وهي “الالتزام بمُتطلّبات صندوق النقد الدولي لبرنامج الإصلاحات البنيوية وإعادة الاستقرار، وتطوير شبكة أمانٍ اجتماعي وإصلاح قطاع الطاقة”. إنعكاساتُ الجمود السياسي القاتل، وبالتالي غياب أيّ خطواتٍ فعليّة للإصلاح المطلوب، تزداد تكلفتها بالنسبة إلى المواطن على مستوى حياته اليومية وعلى مستوى مستقبله في بلده وعلى مستقبل  بلده. يحصل ذلك في ظلِّ ازديادِ خطاب تحميل الآخر المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع وإلى ما يُمكن أن تصل إليه إذا استمرَّ الجمودُ القاتل والمفتوح على المجهول سيّدَ الموقف. يواكبُ ذلك أيضًا حربُ التبريرات بين أطراف الصراع، كلٌّ لموقفه بالطبع، وفي ظلِّ ازديادِ الاستقطاب حدّة، وبالتالي شللٌ سياسيٌّ على مستوى السلطة .

نسمعُ مُقترحات، أو البعض يُسمّيها عملية جسّ نبض، ولو لا يتبنّاها أحدٌ رسميًا من النوع التالي: التحالف المُمسك بالسلطة يأتي برئيس الجمهورية الذي “يَطمئنُّ إليه” مقابل إعطاء المعارضة رئاسة الحكومة. وتبدأ بعدها بالطبع  لعبة توزيع الحصص ضمن حكومة يسمّونها، من دون شك، حكومة وحدة وطنية باعتبار مشاركة الجميع فيها، أو حكومة من غير لون واحد بالضرورة ولو لم يكن هناك توازنٌ فعلي بين القوى التي تشارك فيها. حلٌّ يقوم على شعار “واحد من عندكم وواحد من عندنا”، باعتبار أنَّ ذلك يسمح بتلافي المواجهة والخروج من حالة الشلل القائمة والمكلفة للجميع على الصعيدَين المجتمعي والوطني. إنَّ منطقًا من هذا النوع يُمثّلُ في حقيقة الأمر وكما علّمتنا تجارب الأمس، وظروف اليوم أصعب بكثيرٍ من ظروف الأمس القريب والبعيد، نوعًا من ترحيل المشكلة وشراء الوقت وليس توفير الحلّ المطلوب. الحلُّ الذي يجب أن يكون على مستوى التحدّيات القائمة والمقبلة. تحدّياتٌ تعكس أزمة، يصفها البعض عن حق، بالأزمة الوجودية في ما يتعلق بمستقبل لبنان: أزمةٌ مُتعدّدة الأوجه والأبعاد ومُترابطة في عناصرها.

إنَّ انتخابَ رئيس اليوم قبل الغد أمرٌ أكثر من ضروري، ولكن ليس المطلوب انتخاب رئيس يخضع في دوره ومهامه الوطنية ومسؤولياته الدستورية لتحالفٍ سياسي جاء به إلى الموقع الأول في الجمهورية، أيًّا كان هذا التحالف. عليه أن يَحكُمَ باسم منطق الدولة، وهو رأس الدولة، منطق دولة المؤسّسات التي تقوم على احترام القانون، وإعمالِ منطق المُساءلة، وتعزيز ثقافة المُواطَنة. إنَّ الحكومة التي يجب أن تُشَكَّلَ، سواء كانت حكومةَ وحدةٍ وطنية أو ائتلافٍ سياسي، عليها أيضًا أن تخضعَ وتعملَ بمنطق دولة المؤسسات التي هي نقيضٌ  لدولةٍ هي في حقيقة الأمر نوعٌ من فيدرالية الطوائف السياسية  التي تقوم في الممارسة على شخصنة السلطة “وتطييفها”. إنَّ إنشاءَ سلطة جديدة (رئيسًا وحكومة) حاجة أكثر من ضرورية للإنقاذ الوطني. لكن هذه لا يمكن ان تاتي إلّا إذا واكبتها عملية حوار وطني جاد وهادف بين كافة القوى الفاعلة والمؤثرة للاتفاق، ليس على العناوين كما تعوّدنا، بل على المضامين في ما يخصّ الإصلاح الشامل والمطلوب في الشؤون المالية والاقتصادية والسياسية وهي مترابطة في ما بينها. إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أمرٌ أكثر من ضروري، ولكنه بالطبع غير كاف لإنقاذ لبنان من الانهيار والتحوّل إلى “دولة فاشلة”. إنَّ المطلوب لإنقاذ الوطن الانخراط الفعلي في  بلورة مشروعِ إصلاحٍ بنيوي يقوم على ثُلاثية الشمولية في الرؤية والتدرّج في المقاربة والالتزام بجدولٍ زمنيٍّ واضحٍ للتنفيذ .فسياسة المراهم والمُسَكّنات لم تعد مُجدية لإنقاذ “المريض اللبناني” بل صارت “العملية الجراحية” أكثر من ضرورية لهذا الأمر.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى