وطنٌ اسمُهُ فيروز (2 من 3)
هنري زغيب*
في الجزء الأَول من هذه الثلاثية، مهَّدتُ للكتابة عن صوت فيروز ضالعًا في الوجدان العام، كما رأَى فيها منصور الرحباني “ظاهرةً لا تـتكرَّر: صوتُها مميَّز، إِطلاقةُ صوتها ممـيَّـزة، وكلُّ ما جاء في صوتها جعلَ منه رمزًا من رموز هذا العصر”.
في هذا الجزء الثاني أُتابع تطوُّرَها الفني وما أَثَّر صوتُها في البيئة الأدبية والفنية على السواء، حملت به الإرث الرحباني فصقلتْه بأدائها ونصَّعت ما كان فيه أصلًا من نصاعة كلام ونصاعة لحن فريدتَيْن.
رسولةُ الإِرث الرحباني
هذه الفرادة في صوت فيروز وحضورها هي التي جعلتْها تحمل الإِرث الرحباني وتوصلُه إِلى آخر الدنيا، وهو ما لم يكن ممكنًا أَن يُعطى سواها بتلك المسؤُولية الرَسولية العليا.
لعلَّ قدَرَها، منذ مطالعها، كان يرسم لها هذه المسيرة، منذ سنة 1947، يومَ هي الصبيةُ الخجولُ نُهاد حدَّاد نَدَهَتْها مديرةُ “مدرسة حوض الولاية للبنات” السيِّدة سلمى قربان لتلتقي محمد فليفل الذي كان يبحث عن أَصواتٍ للكورس، تمهيدًا لإِطْلاق “نشيد الشجرة” من شِعر محمد يوسف حمّود الفائز بالجائزة الأُولى في مسابقةٍ أَطلقَتْها الحكومة عامئذٍ لإِعلانها “عيد الشجرة” سنويًّا في الأَول من كانون الأَول/ديسمبر.
وظلَّ هذا القدَر يواكبُها في الخطوات اللاحقة.. من عُهدة فليفل الذي أَوصلَها إِلى الكونسرڤاتوار، تعَّهَدها فيه رئيسُه وديع صبرا أَربع سنوات، ثم نصَحَ بانضمامها إِلى الإِذاعة اللبنانية، وفيها تعهَّدها حليم الرومي لفرادة صوتها، فجمَعَها بالعازف والملحِّن الشاب عاصي الرحباني. ومن لحظتها كان انطلاقُها التاريخي إِلى مشروعٍ رائدٍ مثلَّث الأَضلاع: الأَخَوان عاصي ومنصور الرحباني كتابةً وتلحينًا، وفيروز نجمته الفريدة تعهَّدته أَداءً غنائيًّا ومسرحيًّا كرَّس خلوده.
الأَدب الرحباني
هكذا الأَدبُ الرحباني، واثقًا من جذعه المتين، أَقلع برحلة فنية مكثَّفةٍ نجحت، بما سوى ثلاثة عقود، في تغيير وجه الشرق.
“الأَدب” الرحباني، قلت؟
هل يمكن الحديث عن “أَدب رحباني”؟ طبعًا يمكن. وهل الإِرثُ الكتابي، قصائد وحوارات ومسرحيات، أَقلُّ من إِرث “أَدبي”؟ كيف إِذًا يُمكن، خلافَ ذلك، تعريفُ “الأَدب” الشكسپيري وهو كان كذلك قصائد وحوارات ومسرحيات؟
فيروز نجمةُ ذاك “الأَدب”، قلت؟ وهل هي مجرَّد “مرآة” لإِيصال ذاك الأَدب؟ طبعًا لا.. هي أَكثر من مجرَّد صوت يوصل لحنًا وكلامًا.
وإِنني، في هذا المقال، أَبتعدُ عن التحليل الأَدبي الأَكاديمي في مقاربتي هذا “الأَدب”، وأَبتعد تَوازيًا عن التأَثُّر بعاطفة الصداقة التي جمعَتْني بعاصي ومنصور، وترفعُني إِعجابًا بعبقرية الفرادة الفيروزية المتعدِّدة العطايا، لأَدخل إِلى الإِرث الرحباني من أُفق الانطباع غير الشخصي.
الأُغنية بَدْءًا: “عتاب”
أَبدأُ بالوحدة الصُغرى: الأُغنية.
لا حصرَ للأُغنيات الأُولى التي أَدَّتْها فيروز إِبَّان سنواتها الباكرة في الإِذاعة اللبنانية من أَلحان حليم الرومي وجورج فرح وجورج ضاهر وسواهم. سوى أَن الأُغنية التي أَطلقَتْ شهرتَها الرحبانية هي “عتاب”. صدرَت من الإِذاعة اللبنانية نحو سنة 1951، لكنَّ انتشارها الأَوسع كان بصدورها مسجَّلَةً من إِذاعة دمشق (في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1952 على ما يَذكر المؤَرِّخ الموسيقي السوريّ سعدالله آغا القلعة). فماذا عنها شعرًا، لحنًا، وأَداءً؟
أ. شعرًا: هذه القصيدة للأَخوين رحباني هي من الشعر العمودي غير المكتوب على طراز الأَغاني المأْلوف (لازمة ومذهب)، وهي بعيدة عن بُكائية ذليلة كانت سائدةً فترتئذٍ. فيها عتاب، صحيح، لكنه عتاب المرأَة الأَنوف ذاتِ الكرامة. وهذا نمط ساد لاحقًا في جميع الأَعمال الرحبانية التالية، فلم تظهر فيها المرأَةُ منحنيةَ الشخصية ولا ذليلتَها أَمام الرجل.
ب. لحنًا: في لحن الأَخوين رحباني، المختزِنَين علْمًا وثقافةً من الموسيقى الغربية وموهبةً في شخصَيهما، أَنها من ركائز الطرب غير الخفيف، كما كان يصدر فترتئذٍ في أُغنيات شائعة لا عمق فيها للطرب الأَصيل. إِنها إِذًا ذاتُ لحن شرقي خالص، أَضاءَ أَفقًا جديدًا للتلحين اللبناني في تلك الفترة التأْسيسية من تاريخ الأُغنية اللبنانية التي غزا بها الأَخَوان رحباني لاحقًا مساحات العالم العربي بل أبعَد.. هكذا، بالتوزيع الشرقي لهذا اللحن الشرقي، المضبوط إِيقاعيًّا وأَدائيًّا، والسريع نمَطًا في أُسلوب الكتابة الرحبانية المقتَضَبة على جمال، الموجَزَة على غِنى، كانت أُغنية “عتاب” جديدةً مغايِرَةً بتكثيفها الطربي (عكس المطوَّلات الرائجة في عصرها)، ما جعلها ترُوج في الذائقة الشعبية، وتُلاقي نضارةً ما زالت حية فيها حتى اليوم.
ج. أَداءً: في هذه الأُغنية، وبما يختزن صوتُ فيروز من صقْلٍ صعبٍ بَلَغَتْهُ بتَمَيُّز بديع، وقبْلها كان الصوت باحثًا عن هويته لبلوغ التركيز الثابت، انضبَط صوتُها أَكثر في أَداء هذه القصيدة، فأَطلقَت فيها عُرَبًا مُشَبَّكَةً صعبةً أَجادَتْها بقدرةٍ عالية، بارعةِ المدى المسكوب في مسافات وتباعُدات صوتية جمَعَها صوتُها المصقولُ زخمًا ورخامةً معًا، وأَطلقَها لؤْلؤَةً نادرةً في تركيز الأُغنية اللبنانية، فجعلَ صوتُ فيروز هذه الأغنية تَعبُر العالم العربي، ولاحقًا فلواتِ الشرق والغرب، لتتكرس بها فيروز أَيقونةَ هذا العصر المفرَدة لزمن طويل مقْبل.
من الأُغنية إِلى تثبيت الهوية
يقال إِن لهذه القصيدة علاقةً بخيوطٍ شخصية في علاقة حب وملابساتها بين عاصي “الأُستاذ” ونهاد “تلميذته” في تلك الفترة العاطفية الباكرة التي سبقَت زواجهما لاحقًا. لكنني لا أَتبنَّى هذا الأَمر ولا أَنفيه، فهو شخصيٌّ بينهما ولا إِسناد له.
ما يقال عن “عتاب”، وكلِّ ما جاء بعدها من أُغنيات، يؤَكِّد ما جاء به الأَخوان رحباني تباعًا من “جديد” نَقَلَ الأُغنية اللبنانية، كــ”وحدة فنية” من عهدها المنغمس في الأَلحان المصرية الطابع والبدوية الهوى والتطويل التطريبي العربي، وأَعطاها هوية لبنانية مستقلَّة سطعت بها فيروز كما لا يُمكن أَن يكون سواها سطَع بها، لِما تختزنه من مواهب جمّة.
وما قلتُه عن الأُغنية المستقلَّة كـ”وحدة صُغرى”، أَقولُه عن الحوارات الغنائية التي لا تَخرج عن هذه المعايير أَعلاه، وتتجلَّى فيها فيروز بأَبهى حالاتها الأَدائية (“سهرة حب”، نموذجًا).
كيف تطوَّرَت الأَعمال الرحبانية مع فيروز من الأُغنية كوحدة صُغرى إِلى عالَم أَوسع بلَغَ المسرح والسينما وجالَ في آفاقه على كبرى صالات المسرح في العالم؟
هذا ما أُفصِّلُه في الجزء الثالث والأَخير من هذه الثُلاثية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.