فرنسا: تقاعد زمن “الوفرة”

محمّد قوّاص*

يُمثّلُ الصراعُ الداخلي في فرنسا هذه الأيام تحوّلًا ليس بالضرورة محلّيًا باتجاه انتهاء زمن “دولة الرعاية” التي ترعرعت على بحبوحة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان الرئيس إيمانويل ماكرون عبّر عن هذا التحوّل بإعلانٍ جافٍ في آب (أغسطس) الماضي يُبَلّغُ فيه مواطنيه بانتهاء عصر “الوفرة”، داعيًا إلى استيعاب هذه الحقيقة والاندماج بحقائقها.

أثار إعلان ماكرون آنذاك غضبَ تيارٍ يساري يقوده الراديكالي جان لوك ميلنشون. استنكر الرجل في خطابٍ مشحونٍ بجرعاتٍ شعبوية عالية دوام “الوفرة” للأغنياء فيما بات مطلوبًا من الطبقات الوسطى والدنيا أن تستعِدَّ، في ارتفاع مستويات العيش وتراجع القدرة الشرائية، لتحمّلٍ تبعات انكماشٍ اقتصادي مقلق.

يلتقي اليمين المتطرّف بزعامة مارين لوبان مع نقيضه اليساري الراديكالي في شنّ الحملات ضد حكومة ماكرون التي تقودها اليسارية السابقة إليزابيت بورن لإسقاط خططٍ لإصلاح نظام التقاعد في فرنسا.

وإذا ما حلّ ميلنشون ثالثًا (21 في المئة) في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جرت في نيسان (إبريل) الماضي بعد لوبان (23 في المئة) وماكرون (27 في المئة)، فإن كتلة ائتلاف اليسار البرلمانية التي يتزعمها ميلنشون من خارج البرلمان هي القوة الثالثة بعد كتلة اليمين المتطرف التي تقودها لوبان من داخل البرلمان وكتلة ائتلاف الأغلبية التي يقودها ماكرون من الإيليزيه.

فرنسا غاضبة. تندلع في مدنها المظاهرات والإضرابات رفضًا لقانونٍ يُناقَش داخل الجمعية الوطنية الفرنسية أهم بنوده رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عامًا. والإصلاحُ الذي تقدّمت به حكومة بورن هو جُزءٌ من الوعود الانتخابية لماكرون في حملته الرئاسية. وكان الأخير استجابَ لضغوطٍ سابقة وتراجع عن رفع سنّ التقاعد إلى 65 عامًا على منوال ما هو معمول به أو بأعلى منه في دولٍ أوروبية أخرى.

وإذا ما أُقِرَّ القانون فسيبدأ العمل به في العام 2027، على أن يرتفع سن التقاعد بدءًا من تلك السنة وتدريجًا كل ستة أشهر، حتى يصل إلى 64 عامًا في نهاية العقد. لكن المسألة تبدو صعبة وربما مستحيلة ما قد يحول بسقوط القانون وربما سقوط الحكومة خلفه.

فرنسا هي من الدول القليلة (اليونان وإيطاليا ولوكسمبورغ وسلوفينيا مثلًا) التي لم ترفع من بين دول أوروبية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي سنّ التقاعد (بريطانيا: 66 عامًا، ألمانيا: 67 عامًا مثلًا). وجهة نظر الحكومة تقول إن ارتفاع معدل الأعمار في فرنسا أوجد بونًا شاسعًا بين الحاجة إلى دفع مخصّصات المتقاعدين وقدرة القوة العاملة على تمويل الأمر.

تتحدّث الوثائق الحكومية عن أن نظام التقاعد الحالي كان يقوم على نسبة قيام أربع أشخاص من القوى العاملة بتمويل مخصّصات متقاعد واحد، فيما هبطت هذه النسبة إلى 1.7 حاليًا. وتحذّر الحكومة من أن انخفاضًا مُقبِلًا لا محالة سيطرأ على هذه النسبة، ما سيؤدي إلى انهيار نظام التقاعد وحرمان أجيال اليوم من امتيازات التقاعد غدًا.

يتقاطع أقصى اليمين وأقصى اليسار في رفض الخطة الحكومية ويتنافسان على إظهار حرصهما على حماية “المُكتسبات” الاجتماعية. يلتقيان أيضًا في رفض الحرب في أوكرانيا وإدانة كلفتها واستنكار الفلسفة العسكريتارية التي تنضم فرنسا إليها في التعامل مع الحقيقة الروسية، ويعتبران أن تلك العقائد الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية تُسبّب أزمة التمويل لمكتسب إجتماعي عريق.

واللافت أن النقابات الفرنسية التي لطالما كانت متباينة في إيديولوجياتها متناقضة في مصالحها متفرّقة في أجنداتها تقف جميعها يدًا واحدة نادرة ضد الخطّة الحكومية وتُنظّمُ الإضرابات والمظاهرات مجتمعة على نسق ليس معتادًا في التاريخ النقابي في هذا البلد.

ولئن تندلع تحركات اجتماعية في كثير من الدول الأوروبية إلى درجة أن بريطانيا شهدت إضرابًا ومظاهرات في الأول من شباط (فبراير) الجاري هي الأكبر منذ العام 2011، غير أن الأمر يبقى على أهميته محدودًا نسبيًا بالنظر إلى التجربة الرادعة والاستيعابية التي نجحت بلدان أوروبية في اعتمادها لضبط الحراك الاجتماعي والحركة النقابية. وتبقى التجربة البريطانية حاضرة في ذاكرة نقابات العالم بعد أن استطاعت لندن في عهد رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر في ثمانينات القرن الماضي ضرب الهياكل النقابية ومحاصرة أي حراك اجتماعي بترسانة رادعة من القوانين والإجراءات ما زال معمولًا بها حتى الآن.

يتحرك الشارع بكثافة في المدن الفرنسية لكن النقاشَ يحتَدُّ بضراوة داخل الجمعية الوطنية (البرلمان). تُعوِّلُ حكومة باريس على تفكّكٍ نسبي للتحالفات البرلمانية والنقابية المعارضة لخطة إصلاح نظام التقاعد. تملك الكتلة البرلمانية الموالية للإيليزيه أغلبية نسبية لا تُمكّنها من تمرير قوانين الإصلاح بالقوة الذاتية. أنتجت الانتخابات البرلمانية الأخيرة برلمانًا مُتشظّيًا أوقع النظام السياسي في وضعٍ حرج تحتاج الحكومة بسببه إلى عقد تحالفاتٍ موضعية مؤقتة لتمرير قوانين أو استخدام أحد بنود الدستور الذي يجيز للحكومة تمرير قوانينها حتى لو لم تحظَ بالأغلبية شرط قبولها بتصويت البرلمان على الثقة بالحكومة إذا أراد ذلك.

لا تستطيع الحكومة تمرير قانون بهذا الحجم بهذه القوة القهرية التي أجازها الدستور. جرى التعويل على تصويت كتلة اليمين الديغولي لصالح خطة الحكومة. فلطالما أدرج هذا اليمين خططًا لرفع سن التقاعد إلى 65 عامًا في برامجه الانتخابية التشريعية والرئاسية. ومع أن الأمر لم يحصل وانتهت مهلة النقاش داخل الجمعية الوطنية وانتقلت إلى مجلس الشيوخ، إلّا أن فرضية تمرير الخطة بصفقاتٍ برلمانية سيُعتَبَر استفزازًا لحركة الشارع التي ترعاها قوى سياسية وازنة برلمانيًا وتقودها كتلة نقابية موحَّدة مجتمعة.

في الأمر مغامرة تخشاها فرنسا ذلك أن فيليب مارتينيز، زعيم نقابة “الاتحاد العام للعمل” اليسارية قد حذّر من اللجوء إلى الصفقات البرلمانية. يُلمّحُ الرجل بما يشبه التهديد إلى أن التحرّكَ الذي تميّز بالانضباط والسلمية حتى الآن على الرغم من ضخامته لن يبقى كذلك، ولن يكون بوسع الجسم النقابي العام ضبط غضب غير محسوب. غير أن سقوط القانون أو شلل البرلمان والحكومة معًا قد يدفع ماكرون لاحقًا إلى الخيار الصعب: حلّ الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات تشريعية ما يفتح البلاد أمام مجهولٍ آخر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى