التكامل الإقتصادي هو الحل لتخفيف حدّة التوترات الإقليمية

بقلم كابي طبراني

شهدت السنة الجديدة دخول العلاقات في المنطقة في دوّامة خارج نطاق السيطرة مع قطع المملكة العربية السعودية علاقاتها الديبلوماسية مع جمهورية إيران الإسلامية. لقد تصاعدت حدة التوتر الطائفي بعد إعدام رجل الدين الشيعي السعودي البارز الشيخ نمر باقر النمر في الرياض والهجوم اللاحق على السفارة السعودية في طهران. ومن المرجح أن تكون الآثار المباشرة الملموسة لهذا التصعيد في اليمن، مع إنهيار وقف إطلاق النار الأخير في مطلع العام الجديد، وفي سوريا، حيث ترعى الأمم المتحدة محادثات للسلام من المقرر أن تبدأ في وقت لاحق من هذا الشهر، وفي لبنان حيث تعيش البلاد منذ أكثر من 19 شهراً من دون رئيس للجمهورية. مع إيران المُنتعشة والمتمرّدة، متشجِّعةً برفع العقوبات وإعتراف القوى العالمية ببرنامجها النووي، وقيادة طموحة شابة في المملكة العربية السعودية، فمن المرجح أن تصبح هذه المواجهات الديبلوماسية أمراً شائعاً في المستقبل القريب.
التوتر المستمر بين القوتين الأهم في المنطقة يعني إستمرار الإضطرابات والنزاعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. الواقع إن إصلاح العلاقات السعودية -الإيرانية هو شرطٌ عاجل لتحقيق الإستقرار في المنطقة. ولكن كيف يمكننا بخطوة واحدة وإلى الأبد تحقيق مثل هذه النتيجة ووضع حدّ للأزمات التي يبدو أن لا نهاية لها في الشرق الأوسط؟ جواب واحد واضح: من خلال زيادة التجارة البينية الإقليمية والتعاون الإقتصادي.
هناك درسٌ يمكن أن تتعلّمه المنطقة من النموذج الأوروبي. قبل إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، التي كانت منظّمة مكوَّنة من ست دول هدفت إلى توحيد أوروبا الغربية خلال الحرب الباردة، ووضع الأساس للتطورات الحديثة في القارة العجوز بما فيها الإتحاد الأوروبي، كانت الدول الأوروبية – تشبه كثيراً منطقة الشرق الأوسط، اليوم – عالقة في حلقة شريرة آثمة من الحروب الداخلية القارية – حربان إنتهى بهما المطاف ليصبحا صراعين دوليين. الإتحاد الأوروبي، الذي كان في خمسينات القرن الفائت في الغالب إتفاقاً إقتصادياً وأصبح في الستينات “الجماعة الإقتصادية الأوروبية” ومن ثم “السوق الأوروبية المشتركة” قبل أن يتحوّل في وقت لاحق إلى إتحاد سياسي، خلق بيئة إستطاعت إحتواء الخلافات السياسية بين الدول فيما أضاف الترابط الإقتصادي بعداً إقليمياً تعاونياً للمصلحة الوطنية لكل دولة.
كان هناك العديد من المحاولات في الماضي للتوصل الى إتفاق تجاري إقليمي، كمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى للدول الأعضاء في الجامعة العربية (1997)، والمنطقة الأفريقية للتجارة الحرة للدول الأعضاء في الإتحاد الإفريقي، ومنطقة الإتحاد الأوروبي-البحر المتوسط للتجارة الحرة، وإتفاقية التجارة بين دول المشرق العربي وتركيا في العام 2010. وغني عن القول أن عدداً قليلاً من هذه تحقق ورأى النور.
في العام 2004، خرجت الولايات المتحدة، وربما من دون دراية، عن مسار ما كان على الأرجح الكتلة التجارية الإقليمية الأكثر وعداً عندما إختارت التوقيع على إتفاقات للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي على أساس فردي وليس بشكل جماعي. وعندما أُعلن خبر المفاوضات بين البحرين والولايات المتحدة على الملآ في صيف 2004، حثّت المملكة العربية السعودية المنامة سراً على إلغاء الصفقة. ثم أخذت الرياض خطوة غير مسبوقة بتعليق هبة من 50،000 برميل يومياً من النفط إلى البحرين. وفي أيلول (سبتمبر) 2004، أعلنت واشنطن عن أنها وقّعت على أول معاهدة للتجارة الحرة مع دولة خليجية، البحرين، (وقد وقعت عُمان في وقت لاحق على إتفاقية أخرى). كما أشار الكاتب السعودي عبد العزيز الصقر في مقال نُشر في العام 2005، “إن الولايات المتحدة تُدرك أن التفاوض على المستوى الثنائي يعطيها قوة تفاوضية هائلة مُخالفة للشروط التفضيلية التي يمكن أن تستخرجها دول مجلس التعاون الخليجي إذا تفاوضت بشكل جماعي”.
وكانت تداعيات هذا الاعلان في المنطقة غير مسبوقة أبداً. إن صفقة البحرين، جادلت السعودية، كانت إنتهاكاً مباشراً لإتفاقية دول مجلس التعاون الخليجي الإقتصادية التي وقّعها المجلس الأعلى للدول الأعضاء في مسقط في العام 2001، والتي تنص على: “لا يجوز لأي دولة عضو منح دولة غير عضو أي معاملة تفضيلية تزيد على تلك التي تمنحها هذه الوثيقة للدول الأعضاء، ولا إبرام أي إتفاق يخالف أحكام هذه الإتفاقية”. وكان الوضع حساساً جداً إلى درجة أن إجتماع وزراء دول مجلس التعاون الخليجي في تشرين الأول (أكتوبر) 2004 لم يُشر الى إتفاق التجارة الحرة.
عندما لم يُلبَّ طلبها بإلغاء الإتفاق، كان رد فعل الرياض من خلال فرض ضريبة 5 في المئة على الواردات الآتية من البحرين، منهيةً بذلك إتفاقية التجارة الحرة لدول مجلس التعاون الخليجي مع مملكة آل خليفة. ثم قاطعت السعودية إجتماعاً لوزراء المال والإقتصاد الخليجيين في كانون الأول (ديسمبر) 2004 في المنامة. وكدليل على خطورة الوضع، خفّضت الرياض، للمرة الأولى على الإطلاق، مشاركتها في قمة زعماء الخليج في كانون الأول (ديسمبر) 2004 في العاصمة البحرينية حيث مثّلها وزير خارجيتها في حينه الأمير سعود الفيصل. وتوقّع محلّلون أنه نتيجة لتعليق السعوديين هبة النفط، فإن “إقتصاد البحرين سيواجه ضربة كبيرة من شأنها أن تحدّ بشكل كبير من إحتمالات نموّها”. وكان الضرر بالغاً جداً حتى أن الإتحاد الإقتصادي الخليجي ما زال يعاني العديد من النكسات منذ ذلك الحين، من إنهيار العملة الموحَّدة إلى الحواجز التجارية اللحظية التي ظهرت بشكل متقطع عند المعابر الحدودية، مما أدّى إلى طوابير من الشاحنات التي إمتدت أكثر من إثني عشر ميلاً.
كانت إتفاقية التجارة الحرة مع البحرين جزءاً من خطة إدارة جورج بوش لعام 2003 لإقامة منطقة التجارة الحرة الأميركية الشرق أوسطية التي تشمل اليوم إسرائيل والأردن والمغرب والبحرين وسلطنة عُمان. كانت الخطة أن تشمل المعاهدة جميع دول الشرق الأوسط بحلول العام 2013. وكانت المشكلة الرئيسية مع هذه الخطة أنها ليس فقط قد وجّهت ضربة قاسية للكتلة التجارية الوحيدة القابلة للحياة في المنطقة – دول مجلس التعاون الخليجي- لكنها جعلت دول المنطقة أقل إعتماداً على بعضها البعض. وحتى لو وقعت كل دول الشرق الأوسط على إتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، فإن ذلك لن يفعل شيئاً يُذكر لتعزيز التكامل الإقتصادي الإقليمي.
بدلاً من تشجيع دول مجلس التعاون الخليجي على تعزيز كتلتها التجارية، ودفعها لكي تشمل دولاً مثل الأردن والعراق واليمن في المرحلة الأولى مع إمكانية توسيعها لاحقاً لتشمل سوريا ولبنان ومصر وحتى إيران، فقد وضعت الولايات المتحدة على نحوٍ فعّال الفرامل والعراقيل أمام التكامل الإقتصادي الخليجي، وبالتالي الإقليمي. جزئياً كانت نتيجة هذا التشقق الداخلي الخليجي، بأن الإتفاقات الأخرى التي كانت دول الخليج تتفاوض بشكل جماعي بشأنها، مثل إتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي والإتحاد الأوروبي، قد توقفت في العام 2008.
اليوم، كتلة تجارة إقليمية مُحتملة تشمل إيران هي أبعد ما تكون من أي وقت مضى. بعد فترة وجيزة على قطع الرياض علاقاتها الديبلوماسية مع طهران، أعلنت أنها ستنهي كل علاقات التجارة والرحلات الجوية الى الجمهورية الاسلامية. إيران بالمثل حظّرت جميع الواردات من المملكة العربية السعودية. بالنسبة إلى إيران والسعودية، إن قطع العلاقات التجارية لم تؤثر كثيراً في إقتصاديهما بالطريقة عينها التي سيكون لقطع العلاقات مع دولة الإمارات العربية المتحدة. فقد صدّرت هذه الأخيرة ما يزيد على 12 مليار دولار من البضائع إلى إيران في العام 2013، ومعظمها من دبي. وليس هناك شك في أنه نتيجة للترابط التجاري فإن طهران وأبو ظبي ستفكران مليّاً قبل قطع العلاقات، على عكس الحال بين إيران والمملكة العربية السعودية. في النهاية، لقد إختارت أبوظبي الإحتفاظ بعلاقاتها مع الجمهورية الإسلامية، ولو خفّضت تمثيلها الديبلوماسي، مما يعطي المزيد من المصداقية على ضرورة تطوير الترابط الإقتصادي الإقليمي كوسيلة لتحقيق الإستقرار في الشرق الأوسط.
إذا كان يمكن لأوروبا الإنتقال من منطقة حروب مُزمنة إلى إستقرار دائم من خلال التأكيد على التعاون الإقتصادي والتنمية، فالشرق الأوسط يستطيع ذلك أيضاً. هذا هو بالتأكيد خيار يمكن للولايات المتحدة، فضلاً عن القوى العالمية الكبرى الأخرى، أن تشجّعه وتسهّل تحقيقه إذا كان الإستقرار في الشرق الأوسط الدائم لا يزال هدفها النهائي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى