التوترات الأميركية -الإيرانية في العراق وتأثيرها في المجتمع المدني

في الوقت الذي تتصاعد التوترات بين واشنطن وطهران في العراق، يواجه المجتمع المدني المعارض لإيران في بلاد الرافدين تهديداً وجودياً، الأمر الذي يتطلب من الولايات المتحدة الأميركية أن تأخذ ذلك في الإعتبار خلال محادثاتها الاستراتيجية المقبلة مع بغداد. 

 

قوات الحشد الشعبي: يهاجم بعضها المجتمع المدني ويهدده.

 

بقلم حَفصة حلاوة*

فيما تستمر الأزمة السياسية الداخلية في العراق، فإن المواجهة الجيوسياسية في البلاد بين الولايات المتحدة وإيران توسّعت، الأمر الذي أدى إلى وقوع جهات مدنية في مواجهة (غير) عسكرية أساسية. أطلقت المليشيات صواريخ على المنطقة الخضراء في بغداد، التي تضم مباني حكومية وجميع التمثيل الدولي، على ما يبدو تمشياً مع رغبات أقوى داعميها السياسيين والماليين في طهران. من جانبها، إنسحبت القوات الأميركية الآن من عدد من القواعد العسكرية للتحالف – وهي خطوة فسّرتها الميليشيات على أنها “انتصار” في جهودها لإخراج أميركا من العراق. وكانت التوترات تصاعدت بين البلدين في وقت سابق من هذا العام بعد اغتيال الولايات المتحدة لقائد “فيلق القدس” الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، ونائب قائد قوات “الحشد الشعبي” العراقية، أبو مهدي المهندس، في كانون الثاني (يناير) الفائت خارج مطار بغداد.

جاء التصعيد وسط “ثورة تشرين الأول/أكتوبر”، التي شهدت خروج مئات الآلاف من المواطنين عبر الجنوب ذي الغالبية الشيعية إلى الشوارع للإحتجاج على سوء الحكم والفساد والإحتكار المركزي للنخبة السياسية على السلطة. ومع امتداد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، يصبح المجتمع المدني العراقي مباشرة في خط النار.

إستهداف المجتمع المدني

مع احتدام الإحتجاجات، نفّذت الحكومة العراقية سياسة جديدة في تطبيق القواعد والنُظُم التي تُراقب منظمات المجتمع المدني. تم توثيق رد فعل الميليشيات العنيف على الاحتجاجات بشكل جيد؛ ومع ذلك، فإن الهجوم الأكثر سرية على المجتمع المدني يُهدّد المشاركة المدنية بين السكان على نطاق أوسع.

شرعت الحكومة في عملية جديدة لتحديد الجهات المدنية التي تعتبرها “خطيرة”، على الرغم من أنه لا يزال غير واضح إن كان ذلك رسمياً أم غير رسمي. ووفقاً لأكثر من عشرة ناشطين محليين تمت مقابلتهم في الشهر الفائت، فقد تواصلت الحكومة مع عدد من الجهات المدنية المُسجّلة في جميع أنحاء المدن الساخنة في جنوب البلاد، مع إيلاء اهتمام خاص لبغداد والبصرة والناصرية. وقد لاحظ هؤلاء الفاعلون المدنيون أنه تم الإتصال بهم بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 وشباط (فبراير) 2020 من قبل موظفي الخدمة المدنية لتحديث معلوماتهم. طُلب منهم تقديم نماذج وطلبات جديدة لإعطاء تفاصيل أكثر عن عملهم، وتأكيد أو تحديث تفاصيل التسجيل الخاصة بهم، ولكن الأهم من ذلك أيضاً التحقق مما إذا كانوا تلقّوا تمويلاً أميركياً أم لا.

جميع المنظمات التي تحدثت إليها إما أنها تتلقى حالياً تمويلاً أميركياً بشكل ما أو حصلت عليه في الماضي. جميع أولئك الذين أكدوا استلام المال لديهم مشاريع مُموَّلة من خلال التمويل الحكومي، مثل مكتب الديموقراطية، والمعهد الوطني لحقوق الإنسان، والصندوق الوطني للديموقراطية. كان البعض قد دخل في شراكة مع مجموعات مثل المعهد الجمهوري الدولي أو المعهد الديموقراطي الوطني في أميركا، لكنه لم يتلقَّ تمويلاً مباشراً منهما أو من منظمات أميركية أخرى. ويُقال أن الحملة ضد منظمات المجتمع المدني المُموَّلة من الولايات المتحدة قد بدأت تقريباً مباشرة بعد اندلاع الإحتجاجات.

يتم استهداف المنظمات التي تؤكد استلام أموال أميركية – أولاً من قبل الجهات المدنية الحكومية ثم من قبل الميليشيات. منذ بدء هذه الحملة، أغلق العديد من منظمات المجتمع المدني أبوابه بالقوة أو استباقياً. وقد تحدّث ناشطون مدنيون عن تلقّي تهديدات مكتوبة ورسائل تخويف. وروى أحد محامي المكتب الوطني لحقوق الإنسان سلسلة من الرسائل النصّية الشخصية التي تُهدد معيشة أعضاء الجمعية، مما أجبرهم وزملاءهم على إغلاق مكاتبهم في بغداد، والتي كانت تقوم بخدمة ومساعدة الأشخاص الضعفاء في المجتمع. ويصف قادةٌ تنظيميون آخرون التهديدات الموجهة لسحب تسجيلهم إذا استمروا في العمل ودعم الإحتجاجات. لقد اتخذ العديد من منظمات المجتمع المدني المعنية هذا الأمر كأمر ضمني من الحكومة. ورداً على ذلك، أغلقوا مكاتبهم قبل بدء أي تهديدات جسدية أو تخويف. والذين لم بفعلوا، أفادوا بأن جماعات الميليشيات داهمت مكاتبهم لاحقاً، حيث أجبرتهم جسدياً على الإغلاق.

كما استهدفت التهديدات الجسدية وجهود التخويف التي تقوم بها الميليشيات القادة المدنيين، ولا سيما النساء. من الجدير بالذكر أن عدداً هائلاً من منظمات المجتمع المدني في الجزء الجنوبي من البلاد يُقدم دعماً للأحوال الشخصية، لا سيما الإعتراف بالطلاق أو حقوق الأطفال. وذلك استجابة لآفة “الزواج الديني” المنتشرة التي أضعفت المجتمعات ودمرت الآفاق المستقبلية للعديد من النساء والأطفال. (على الرغم من أنه ليس قانونياً في العراق، إلّا أن زواج السّيد (زواج خارج المحكمة) سائد، مما يؤدي إلى زواج العديد من الفتيات الصغيرات. وهذا لا يترك لهنّ الحقوق المطلوبة ويحدّ من حصولهن – وأطفالهن – على التعليم).

هذا يعني أن عدداً مفاجئاً من القادة المدنيين في جنوب العراق هم من النساء، على الرغم من الحواجز الإجتماعية التي يواجهنها (يمكن القول أنها تعكس نمطاً أصبح أكثر وضوحاً في جميع أنحاء البلاد ككل). إن التخويف الجسدي والتهديدات التي تتعرّض لها الناشطات المدنيات بشكل خاص تهدف إلى ممارسة القوة الجسدية وكذلك التغلب عليهن عقلياً. يروي ممثلو المجتمع المدني قصص أولئك الذين تعرضوا للمضايقة أو التهديد الجسدي أو الاعتداء بشكل منتظم منذ اندلاع الاحتجاجات في أواخر العام الماضي. وقدّم البعض تفاصيل عن سلسلة من الهجمات المستمرة على منظمة معينة وأعضائها. كما يصرّون على أن عمليات الإغتيال التي تستهدف الفاعلين المدنيين هي جزء من حملة قمع أوسع.

التأثير المحتمل في المدى الطويل

في حين أن هذا القمع قد يؤثر في حركة الإحتجاج وقدرتها على إعادة التنظيم واستعادة الزخم عندما يخف انتشار جائحة “كوفيد-19″وترفع البلاد حظر التجول الحالي، فقد تكون الآثار الطويلة المدى في المجتمع المدني أكثر ضرراً بكثير.

تبنّت الحكومة وأذرعها الأمنية المختلفة الرأي القائل بأن المجتمع المدني وحركة الاحتجاج متماثلان وهما واحد. في حين لا يوجد شك في أن غالبية المجتمع المدني تقف متضامنة مع الحركة، فلا يوجد دليلٌ يُثبت أن المنظمات المُموَّلة من الولايات المتحدة قد غذّت أو شجّعت أنشطة الإحتجاج. تقريباً جميع الفاعلين المدنيين الذين تمت مقابلتهم انخرطوا في الإحتجاجات، ولكن كمتظاهرين فرديين وليس بصفتهم التنظيمية.

فيما تسحب الولايات المتحدة عسكرها من البلاد، وتحتفل الميليشيات بانتصارها المُفترَض، يجب على الإدارة الأميركية أن تؤكد التزامها بالأنشطة الإجتماعية والمدنية التي طالما دعمتها في العراق. لقد أثار انسحاب الجيش الأميركي مخاوف داخل النخبة السياسية، وتدعو الفصائل الكردية والسنّية بالفعل إلى إعادة تقويم العلاقة خوفاً من العقوبات الإقتصادية التي هدّد بها الرئيس دونالد ترامب. من جانبها، أعلنت الولايات المتحدة أخيراً عن بدء حوار استراتيجي جديد مع العراقيين، من المقرر عقده في وقت لاحق من هذا العام، وإعادة تنظيم الأهداف وأنماط الدعم.

إن المجتمع المدني يتطلّب التزاماً من شركائه الأميركيين بعدم تركه عالقاً نتيجة لتحوّلٍ في العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق. سواء كانت هذه النتيجة مرغوبة أم لا، فقد تُرِك المجتمع المدني مكشوفاً للإنقسام والخلاف الأميركي-الإيراني داخل العراق، حيث أن الميليشيات المدعومة من إيران قادرة على استهداف ومهاجمة الفاعلين المدنيين حسب رغبتها. ويعكس الدليل الناشئ من أنها استهدفت المنظمات المدعومة من الولايات المتحدة بشعورها المستمر بالتمكين والفجوة الكبيرة في تدابير الحماية المتاحة نتيجة لتراجع الأميركيين المستمر. يجب على الإدارة الأميركية، في هذه المرحلة الحاسمة لمستقبل العراق، ألّا تتخلّى عن التزامها بالحفاظ على المجتمع المدني ودعمه.

مع تحرّك القضايا السياسية بسرعة للمناقشة كجزء من الحوار الاستراتيجي الثنائي بين الولايات المتحدة والعراق (المقرر حالياً في حزيران (يونيو) 2020)، يجب أن يتم دعم الأولويات غير العسكرية بصوت عال وعلني من قبل الجهات الفاعلة من كلا الجانبين. من الضروري أن تتذكر الولايات المتحدة قوة المشاركة الكلية مع شركائها الدوليين. ويجب أن يشمل ذلك أيضاً مساءلة الجهات الفاعلة التي تُسيء استخدام الدعم المُقدَّم. يجب تذكير الولايات المتحدة بأنها تقوم – من حيث المبدأ – بإجراء علاقات ثنائية وأجنبية على أساس جدول أعمال قائم على القِيَم. لا ينبغي أن تأتي ضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا الأمنية على حساب الدعم الثنائي المهم لركائز الحكم، وهي: المجتمع المدني (بما في ذلك تمكين وحماية الفئات الأكثر ضعفاً) وشفافية الحكومة ومساءلتها.

  • حفصة حلاوة هي باحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط ومستشارة مستقلة تعمل في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأهداف التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي. الآراء الواردة في هذه المقالة هي خاصة بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى