لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (33): شَراكَةٌ غَير دائمة
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
على الرُغمِ من تَحَفُّظِ موسكو وعَدَمِ رضاها، وافقت واشنطن، وبارَكَت الرياض، على دخولِ الجيش السوري إلى الأراضي اللبنانية عام 1976.
هذا النوعُ من التدويل، لا يَرغَب الأميركيون عادةً إظهاره بأنهُ أحاديُّ الجانب من طرفهم فقط (ولو أنه في الواقع كذلك)، فيُشرِكون معهم أطرافًا أخرى عربية وأحيانًا غير عربية (كما فعلوا في العراق).
جاءَ التدخّلُ السوري وقتها في لحظةٍ حرجة لأنَّ تحالُفَ المنظمات الفلسطينية مع الحركة الوطنية اللبنانية كاد أن يَقلبَ الموازين الداخلية في لبنان، مما شكَّلَ، أو كاد يشكِّلُ، خاصرةً رخوةً لسوريا. وليس سرًّا أنَّ النظامَ السوري لم يكن يرتاح لا إلى قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط، ولا إلى قائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.
لكنَّ الشيءَ الذي قلبَ المُعادَلة، وغيَّرَ حسابات وتحالفات الأطراف المُتناحِرة في لبنان، وجاءَ مُفاجئًا على حين غرَّة، هو زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل في العام 1977 فأربَكَ ذلك جميع الأطراف المُنغَمِسة بالشأنِ اللبناني بمن فيهم الولايات المتحدة ذاتها. فخروجُ مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي ليس بالشيءِ القليل أو العابر، بل هو تغييرٌ جذريٌّ في السياسات العالمية كلِّها.
كان لزامًا على النظام السوري، المُحرَج من تلك الخطوة، أن يُغيِّرَ مَسارَ سياسته الإقليمية واللبنانية أيضًا، وهو تغييرٌ دفاعيٌّ أخذَ شكلًا هجوميًا، سواءَ بتصالحه مع العراق (في عهد الرئيس أحمد حسن البكر)، ووضع “ميثاق العمل القومي” معه، أو في قطع العلاقات مع مصر وتشكيل ما سُمِّيَ في ذلك الوقت “جبهة الرفض”.
وعلى هذا المَفصَلِ جرى تغييرٌ للأولويّات لدى أطرافٍ عديدة، وبدفعٍ من الولايات المتحدة، بُغيةَ فتحِ جبهاتِ استقطابٍ بعيدًا من الصراع العربي-الإسرائيلي، بمعنى صرف الأنظار عن هذا الصراع وتوجيهها نحو صراعات أخرى. وفي هذا الإطار يندرجُ انقلاب صدام حسين على الرئيس البكر، الذي كان انقلابًا على “ميثاق العمل القومي” تحديدًا، تلاهُ شنُّ حربٍ كبرى ضد إيران بدعمٍ من واشنطن وتمويلٍ من الخليج.
عندَ ذلك المَفصَلِ وتحوُّلاته لم يُدرِك اللبنانيون ظروفَ السلوك المُتَصَلِّب للسوريين، فقامَ بعضهم بخطواتٍ خارج السياق أدّت إلى نوعٍ آخر من التدويل لم يُكتَب له النجاح.
أُعطيَ تدويلُ الأزمة اللبنانية في ذلك الوقت وجهًا عربيًا من خلال قمّةٍ عربية محدودة انعقَدَت في الرياض بدعوةٍ من الجامعة العربية، حيثُ تقرَّرَ تشكيلُ قوَّة ردعٍ عربية لحفظ الأمن في لبنان، ضمَّت في البداية قوَّاتٍ من ستِّ دول عربية هي: سوريا، لبنان، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، واليمن. لكن القوَّة الأكبر كانت سوريَّة بما لا يقاس (25 ألف جندي سوري وخمسة آلاف فقط من بقية الدول العربية). ويُقال إنَّ السفير السعودي في بيروت اللواء علي الشاعر، هَمَسَ في أُذُنِ ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، الحاكم الفعلي في السعودية وقتها، قبل أن يُصبِحَ ملكًا بعد سنواتٍ عدة، قائلًا له: “هبَّت علينا ريحٌ فدفعت بنا إلى المسرح، فإمّا أن نُجيدَ الدور أو أن نُسدِلَ الستار”، فأجابه الأمير فهد: “بل نُجيدُ الدور”. لكن سرعان ما انسحبت القوات العربية ومنها القوات السعودية لتنفرد وتتفرّد سوريا بالشأن اللبناني، لكنَّ الشَراكةَ السورية–السعودية بقيت قائمة وفاعِلة (سمَّاها بعض السياسيين اللبنانيين س. س).
هذه الشراكَةُ (تحت مظلّة الراعي الأميركي) استمرَّت ردحًا طويلًا من الزمن حتى توقّفت الحرب على يدها في “اتفاقِ الطائف”، ونشوء الحالة الحريرية كتتويجٍ لها، وهي مُتَّصِلة مباشرةً بأعلى سلطة في المملكة العربية السعودية في حينه مُمَثَّلَةً بالملك فهد شخصيًا. وربما كان هذا الوضعُ تفسيرًا لقول الملك فهد لسفيره في بيروت: “بل نُجيدُ الدور”. صحيحٌ أنَّ رفيق الحريري، بعد “اتفاق الطائف”، حَكَمَ في لبنان بالنفوذِ السعودي، لكنه ما كان ليستطيع أن يَحكُمَ خارج إطار القوَّة السورية الحاكمة فوق الحاكمين. وهذا ما أتاحَ له شقَّ وإضعاف معظم القوى السياسية اللبنانية (باستثناء “حزب الله” وحركة “أمل”)، لأنَّ إضعافَ القوى السياسية اللبنانية (خصوصًا المسيحية منها) كان يُناسِبُ السوريين في ذلك الوقت لكون الجسم السياسي المسيحي شكَّلَ عصبَ المُعارِضة للوجود السوري في لبنان.
كانت سوريا بالنسبة إلى الحريري “عدوًّا له ما من صداقته بُدُّ”. لكنه لم يكشف عن ضِيقِهِ بالسوريين إلّا بعد رئاسة العماد إميل لحود، وتسريح أركان حاملي الملف اللبناني في دمشق، وأبرزهم حكمت الشهابي وعبد الحليم خدَّام، (في أواخر حياة الرئيس حافظ الأسد ثم في بداية عهد خليفته الرئيس بشَّار الأسد). والملفت أنَّ افتراقَ الحريري عن السوريين بدأ قبل الافتراق السوري-السعودي بسنواتٍ عديدة.
الشراكة السعودية–السورية ظلّت قائمة في عهد الملك عبد الله، بل إنَّ الملك عبد الله حملَ سعد الحريري على الذهاب إلى دمشق لمصالحة الرئيس بشَّار الأسد (وإشهار تبرئة سورية من اغتيال والده)، وتسهيلًا لوصوله إلى رئاسة الحكومة، واستمراره فيها.
لكنَّ الشَراكة السعودية–السورية في لبنان انفصمت عُراها عندما نفخَت أميركا بريحِ “الربيع العربي” باتجاهِ سوريا، فأشعلت فيها حربًا أهلية، وإرهابية، ومُتعدّدة الجنسيات، لا تبقي ولا تذر، انخرطَ فيها فريقٌ من اللبنانيين بفتح الثغور على مداها، ومن تلك الثغور دخل مقاتلون وإرهابيون، ودخلت حمولات بواخر من السلاح الخفيف والثقيل، ودخلت أموالٌ (سعودية وخليجية) بالمليارات.
والسببُ الآخر لانفصامِ تلك الشراكة، هو تعاظم قوة “حزب الله” اللبناني ومشاركته في الحرب السورية إلى جانب الجيش السوري، واتساع دائرة نشاط الحزب على المسرح الإقليمي ليشمل العراق واليمن، وهو ما يفسِّرُ انزعاج السعوديين من لبنان.
لكنَّ عودةَ الحياة الى النشاط السعودي في لبنان، (بعد فرض الاعتزال السياسي على الحريري وتياره) يُنبِئُ بمرحلةٍ جديدة في الإقليم ربما تجدَّدَت فيها الشراكة السعودية–السورية على أسسٍ جديدة إذا استطاع السوريون تخفيف مكامن الإزعاج للسعوديين في لبنان.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.