أَيُّها المصلُوب في يوم القيامة
هنري زغيب*
من أَوَّلِ التاريخ، والعينُ عليك!
منذُ راح الدُخَلاءُ يَقْطَعون أَرزَكَ كي يحتَطِبُوا، والغرباءُ كي يَبْنُوا بخشَبه الصُلْبِ الهياكلَ والبيوت، والعينُ عليك!
ومنذ راح الـمُهَجَّرون والـمُطارَدون والـمُشرَّدون يلتَجِئُون إِليك مَوْطنَ أَمان، والعينُ عليك!
وما زالت العينُ عليك، هَنَّا لتحسُدَك، هَنَّا لتغبِطك… مرةً كي تَتَشَبَّهَ بكَ، ومراتٍ لتقضي عليكَ، والعينُ عليك!
وأَنت صامدٌ هرقليًّا في وجه الريح وفي عين العاصفة.
تضرِبكَ الأَنواء الهائجة وأَنتَ أَقوى من الأَنواء… وتهاجمك العواصف الشرسة وأَنت أَعنَدُ من العواصف.
من زمانٍ يتغلغلُ فيكَ اليوضاسيون، وأَنت تعرفُهم ولا تخنَع، وحين ينكشفون يأْخذون طريقَهم ندمًا إِلى التينة اليابسة.
من زمانٍ يحاكمُكَ البيلاطسيون، وأَنتَ تواجه كلَّ بيلاطُس وتَنطُق بالحق والحقيقة، فيغسل بيلاطس يديه بماء العار.
من زمانٍ وقَيافا يرأَس الكهنة الذين يَدينونكَ فينتهون مُدانين ويخجَلون وينهزمون بحقيقتك الحضارية.
من زمانٍ وباراباس الذي أُطْلِقَ مكانَك ما زال يرنو إِليكَ كي تغفِر له، واللصُّ إِلى يمينك يستجدي الخلاص وأَنت تُنْقذُه.
ويكون صَلبُكَ يوميًّا، وتكون المساميرُ في كفَّيْك وقدمَيْك وأَنت صابر محتمِلٌ تلك المساميرَ عن إِخوتكَ الأَبعدين والأَقربين،
وإِسفنجةُ الخل تَقْبَلُها مرارةً عن جميع مَن أَحبُّوك ولن يرتدُّوا عن أَن يحبُّوك.
يا أَيها المصلوب في يوم القيامة… مرَّت الساعةُ الثالثة وأَنتَ على الصليبِ صامدٌ صابر.. ومرَّ سبت النور وأَنتَ على الصليب صامدٌ صابر.. وأَطلَّ على العالَمينَ فجرُ اليوم الثالث وأَنتَ ما زلتَ على الصليب.
أَيها اليوسفُ الذي أَوغر جمالُهُ نفوسَ إِخوته حتى رَمَوه في البئر، وعند انبلاج الحقيقة انهزمَ إِخْوَته فباتَ اليوسفَ الخالد.
من أَول التاريخ، والعينُ عليك!
إِكليلُ الشوكِ على جبينكَ العالي لم تُخفِض آلامُهُ جبينَك، ولا لوَت رقبتَك ضعفًا وضنًى كما يصوِّرونَك خطأً، بل بقيتَ وتبقى قويًّا حتى وأَنتَ في أَشرس آلامك، على هدْي مَن علَّق الأَرض على المياه.
والساخرون منكَ أَمام الصليب، ما زالوا ساخرين يُضْمِرون لكَ الموت، ولا يدركون أَنكَ بالموت تغلُب الموت.
لم يفهموا بعد… منذ عصورٍ لم يَفهَموا وإِلى عصور مقْبلةٍ لن يفهموا، أَنك أَقوى من الزوال وأَنَّ أَرزتَك علامتُك وتحرُزُك ضدَّ الزوال لأَنك مجذَّر كأَرزكَ في عُمق التاريخ.
ولم يفهموا بعد ولن يفهموا أَنك في ساعة الغضَب تدخلُ هيكلهم بكرباجك وتجلدُهم وتطردُهم إِلى الظُلمة البرانية، وشعبُكَ الثائر يهزم اليوضاسيين الخوَنَة الْقادوهُ إِلى البؤْس، فيكون يومَها فعلًا يومُك الثالث، وتُدحرجُ الحجرَ عن صدر شعبك، وتَخرج من القبر ليدخُلَه من ساسوكَ إِلى القبر، وتخلعُ عنكَ كَفَنَهم لفُّوك به وَهُمُ الأَحرى أَن يكونوا فيه ملفوفين، وتبتسمُ لشعبكَ فتُنْقِذُه من حكَّامه الفاسدين وساسته المأْجورين، ويتبعُكَ شعبكَ إِلى الخلاص منهم ببلوغِهِ معكَ سماءَ الهناءَة في وطن سعيد.
هو هذا ابتهالُنا اليوم إِليك، يا الحبيبُ الحبيب، يا وطني المعبود، أَيها المصلوب في يوم القيامة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib