إصلاحُ التعليم في العالم العربي بشكلٍ خلّاق

مروان المعشّر*

يتزايدُ الجَدَلُ حول الحاجة الماسة إلى إصلاحِ التعليمِ في العالم العربي. تتجاوَزُ المشكلة نقص الأنظمة التعليمية القادرة على إعداد الشباب لعالمٍ مُتَغَيِّر. المَناهِجُ الحالية، القائمة على الحفظ عن ظهر قلب وتجنّب التفكير النقدي أو النظر في الآراءِ المُعارِضة، فشلت في رعاية التعلّم الحرّ والإبداعي من النوع الذي يدفع المُجتمعات إلى الأمام.

تُظهِرُ التصنيفات الدولية أن الطلابَ العرب يتأخّرون على مستوى العالم، على الرُغم من الموارد الكبيرة التي يتمُّ ضخّها في التعليم في جميع أنحاء المنطقة. لا يُمكِنُ أن يفشلَ التقييم الموضوعي في استنتاجِ أن المشكلة تَكمُنُ في أن الأنظمة التعليمية في المنطقة تتجاهل نقل وتعليم المهارات والقيم التي يحتاجها الطلاب.

لطالما قاومت القوى المحافظة، العلمانية والدينية، الإصلاح التعليمي خوفًا من أن يُقَوِّضَ التقاليد ويُهدّدُ القيم الراسخة. لكن هذه الحجج لم تعد تتمتّع بالمصداقية بالنظر إلى تراجع التعليم العربي وعجز المنطقة عن مواكبة التقدّم الأكاديمي والتكنولوجي العالمي.

في العام 2018، ذَكَرَ تقريرٌ صادرٌ عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط أن التعليمَ بحاجةٍ إلى التحوُّلِ “من التدريس إلى التعلّم” من أجل تلبيةِ احتياجات المُجتمعات التعدّدية وتثقيف المواطنين القادرين على التعامل مع تحدّيات الحياة. كما دعا إلى وضع التربية المدنية في قلب الإصلاحات التعليمية. وقد توصّلت دراسات أخرى عدة، التي أجرتها المنظمات الدولية بما فيها البنك الدولي واليونيسكو، إلى استنتاجاتٍ مُماثلة.

نشرت كارنيغي أخيرًا تقريرًا آخر بالإنكليزية بعنوان “الابتكار والاتجاهات الجديدة: البحث عن مسارات جديدة في إصلاح التعليم العربي”، والذي بُنِيَ على التقرير الأول. سيصدر قريبًا باللغة العربية. يَهدُفُ التقرير إلى تجاوز تحديد المشكلات، وبدلًا من ذلك، يُركّز على الجهود المبذولة في بعض الدول العربية لتطويرِ أنظمةٍ تعليميّة على الرُغم من التحديات. فهو لا يُرَكِّزُ على الإصلاحات التي تقودها الحكومة، والتي تَميلُ إلى اتباعِ نَهجٍ من أعلى إلى أسفل يُهَيمِنُ عليه التفكير الاستبدادي، مع تجاهل أهمّية التفكير النقدي. بدلًا من ذلك، يفحص التقرير بشكل أساسي العديد من المبادرات التصاعدية في المنطقة – ليس بالضرورة للترويج لها كأمثلة يتم نسخها وتكرارها بالضبط، ولكن للإظهار بأنه على الرُغم من العديد من التحديات والإخفاقات، إلّا أن الأمثلة الناجحة للإصلاح على مستوى القاعدة موجودة بالفعل.

ينظرُ التقرير على وجه التحديد في أربع مبادرات. وتشمل هذه الإصلاحات التعليمية في قطر والأردن ومصر، وكذلك “مبادرة تمام” من أجل “التطوير المُستَنِد إلى المدرسة”، التي يدعمها منتدى الفكر العربي والجامعة الأميركية في بيروت وتعمل في ثماني دول عربية. تُظهِرُ المشاريع أنه على الرُغمِ من عدم أخذ الإصلاح التربوي على مَحمَلِ الجَدِّ على المستوى الوطني، إلّا أنه يتمُّ تنفيذ الحلول الإبداعية محلّيًا. يحدونا الأمل في أنه من خلال تسليط الضوء على هذه المشاريع، سيتمّ تشجيع الآخرين على إظهار مُبادراتٍ مُماثلة.

لماذا تحتاج الحكومات العربية إلى إصلاحِ أنظمتها التعليمية، وكيف؟ يُشيرُ تقريرنا إلى أن الوقتَ قد حان لتجاوز مجرّد بناء المدارس ودمج الطلاب فيها. بدلًا من ذلك، يجب أن يُصبِحَ التعليم عملية مستمرة مدى الحياة؛ يجب أن يُنظَرَ إليه على أنه مسؤولية اجتماعية، ويجب أن يبني أساسًا لمجتمعاتٍ مُستقرّة ومزدهرة. بعد كل شيء، سيساعد التعليم على تشكيل مستقبلنا الجماعي.

نحتاجُ إلى إجراءِ مناقشات أوسع لإعادة تقييم التعليم بجدية في عالمنا المتزايد التعقيد. لقد أصبح من الواضح أننا لا نحتاج فقط إلى إعداد الشباب لدخول مكان العمل، ولكن أيضًا لتزويدهم بالمهارات اللازمة للتعامل مع التغيير المستمر والمُتسارِع طوال حياتهم. من الواضح أن الأنظمة التعليمية الحالية في العالم العربي ليست على مستوى المهمة. من الضروري التأكّد من أن أوجه القصور هذه لا تخلق أجيالًا من الشباب المُحبَطين، الذين لن تؤدي عيوبهم إلّا إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية.

كما كان هناك تراجعٌ واضحٌ في جودة التعليم بسبب الاضطرابات السياسية والصراعات في العديد من الدول العربية. وهذا يعني أن الملايين من الشباب إما يتلقّون تعليمًا دون المستوى أو لا يتلقّون أي تعليم على الإطلاق. لا يُمكِنُ حلُّ هذه المشكلة بتطبيقِ طُرُقِ التدريسِ التقليدية. هناك حاجة ماسة اليوم إلى عقودٍ اجتماعية وتربوية جديدة وجادّة على المستويَين الوطني والإقليمي.

التحدّي الآخر هو العمل مع الحكومات العربية والإظهار لها بأن الأساليب التعليمية الحديثة لا تُشكّلُ تهديدًا للمُعتقدات الدينية والتقاليد الاجتماعية. وبدلًا من ذلك ، فإنها تُمثّل أحد الأصول الذي يمكن أن يُساعد على تحقيق الاستقرار والازدهار للمجتمع، والبناء على الأمثلة الناجحة مثل تلك المذكورة سابقًا.

يتوصّل تقريرنا إلى عددٍ من الاستنتاجات، أهمها عدم وجود خطة جاهزة لنظام تعليمي مثالي. في أحسن الأحوال، يمكننا أن نأمل في الحصول على اقتراحاتٍ يمكن لمُخطِّطي التعليم أن يفحصونها ويُنفذّونها بشكل انتقائي في سياقاتهم الخاصة.

إن إصلاحَ التعليم أمرٌ حيوي ولا يُمكن تحقيقه من خلال الدعم اللفظي من المسؤولين العرب. بدلًا من ذلك، يتطلب الأمر موازنات وخطط مدروسة جيدًا تُوَجِّهُ التحوّل بعيدًا من الأنظمة التعليمية التي لم تعد مُناسِبة لعالم اليوم. يجب أن يكونَ الهدفُ هو وضع أنظمةٍ للتربية المدنية تُشجّعُ على الإبداع والانفتاح على الآخرين وقبول وجهات النظر المتعددة.

من الممكن إنجاح الإصلاح التربوي من خلال البدء على المستوى المحلي ثم العمل صعودًا إلى المستويين الوطني والإقليمي. وعلى النقيض من ذلك، فشل العديد من المناهج الوطنية التي تعمل من أعلى إلى أسفل في إحداث تأثير إيجابي محليًا. لم تُعطَ عملية الإصلاح التربوي الأولوية التي تستحقها، لكن هناك مخاطر كبيرة على مستقبل المنطقة إذا سُمِحَ للوضع الحالي بالاستمرار. نأمل أن يساعد تقرير كارنيغي الأخير على تحديد أفضل أنواع البدائل القَيِّمة التي يمكن أن تقدّمها المنطقة في هذا المجال.

  • مروان المعشر هو نائب الرئيس للدراسات في كارنيغي، حيث يشرف على الأبحاث في واشنطن وبيروت حول الشرق الأوسط. كان سابقًا نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية الأردن. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MarwanMuasher

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى